وأما
النكرة المنفية كقوله : لا رجل في الدار ، أو في سياق النفي كقوله : ما في الدار من رجل فإن القائل لذلك يعد كاذبا بتقدير رؤيته لرجل ما ، وأنه يحسن الاستثناء بقوله إلا زيد ، وأنه يصح تكذيبه بأنك رأيت رجلا كما ورد قوله تعالى : (
قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى ) تكذيبا لمن قال : (
ما أنزل الله على بشر من شيء ) وكل ذلك يدل على كونها للعموم ، ولأنها لو لم تكن للعموم لما كان قولنا : لا إله إلا الله توحيدا ، لعدم دلالته على نفي كل إله سوى الله تعالى .
وأما الإضافة كقوله : أعتقت عبيدي وإمائي فإنه يدل على العموم بدليل لزوم العتق في الكل ، وأنه يجوز لمن سمعه أن يزوج من أي العبيد شاء وأن يتزوج من الإماء من شاء دون رضى الورثة ، وكذلك لو قال : العبيد الذين هم في يدي لفلان صح الإقرار بالنسبة إلى الجميع ، ولولا أن ذلك للعموم لما كان كذلك .
وأما الجنس إذا دخله الألف واللام ولا عهد فإنه للعموم لأربعة أوجه : الأول : أنه إذا قال القائل : رأيت إنسانا أفاد رؤية واحد معين فإذا دخلت عليه الألف واللام ، فلو لم تكن الألف واللام مفيدة للاستغراق لكانت معطلة ، لتعذر حملها على تعريف الجنس لكونه معلوما دونها وهو ممتنع .
[ ص: 206 ] الثاني : أنه يصح نعته بالجمع المعرف وقد ثبت أن الجمع المعرف للعموم ، فكذلك المنعوت به وذلك في قولهم : أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض ، وأنه يصح الاستثناء منه كما في قوله تعالى : (
إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا ) وهو دليل العموم .
الثالث : أن القائل قائلان : قائل يقول : إن الألف واللام الداخلة على الاسم المفرد والجمع تفيد العموم ، وقائل بالنفي مطلقا .
وقد ثبت أنها مفيدة للعموم في الجمع ، فالتفرقة تكون قولا بتفصيل لم يقل به قائل
>[1] .
الرابع : أنه إذا كانت الألف واللام لتعريف المعهود عائدة إلى جميعه لعدم أولوية عودها إلى البعض منه دون البعض فكذلك إذا كانت لتعريف الجنس .
وأما
الجمع المنكر فيدل على أنه للعموم ثلاثة أوجه :
الأول : أن قول القائل رجال يطلق على كل جمع على الحقيقة ، حتى الجمع المستغرق فإذا حمل على الاستغراق كان حملا له على جميع حقائقه فكان أولى .
الثاني : أنه لو أراد المتكلم بلفظ الجمع المنكر البعض لعينه ، وإلا كان مراده مبهما فحيث لم يعينه دل على أنه للاستغراق .
الثالث : أنه يصح دخول الاستثناء عليه بكل واحد من آحاد الجنس فكان للعموم .
ومن شبههم أن العرب فرقت بين
تأكيد العموم والخصوص في أصل الوضع ، فقالوا في الخصوص : رأيت زيدا عينه نفسه ، ولا يقولون كلهم : رأيت زيدا أجمعين ، وقالوا في العموم : رأيت الرجال كلهم أجمعين ، ولا يقولون : رأيت الرجال عينه نفسه ، واختلاف التأكيد يدل على اختلاف المؤكد لأن التأكيد مطابق للمؤكد .
ومنها أنهم قالوا : وقع الإجماع على أن الباري تعالى قد كلفنا أحكاما تعم جميع المكلفين ، فلو لم يكن للعموم صيغة تفيده لما وقع التكليف به لعدم ما يدل عليه ، أو كان التكليف به تكليفا بما لا يطاق وهو محال .
[ ص: 207 ] وأما شبه أرباب الخصوص ، فأولها : أن تناول اللفظ للخصوص متيقن ، وتناوله للعموم محتمل ، فجعله حقيقة في المتيقن أولى .
وثانيهما : أن أكثر استعمال هذه الصيغ في الخصوص دون العموم ، ومنه يقال : جمع السلطان التجار والصناع وكل صاحب حرفة ، وأنفقت دراهمي ، وصرمت نخيلي ونحوه . فكان جعلها حقيقة فيما استعمالها فيه أغلب ، أولى .
وثالثها : أنه إذا قال السيد لعبده : أكرم الرجال ، ومن دخل داري فأعطه درهما ، ومتى جاءك فقير فتصدق عليه ، ومتى جاء زيد فأكرمه " وأين كان ، وحيث حل ، فإنه لا يحسن الاستفسار عن إرادة البعض ويحسن الاستفسار عما وراء ذلك ، فكان جعل هذه الصيغ حقيقة فيما لا يحسن الاستفسار عنه دون ما يحسن .
ورابعها : أنه لو كان قول القائل " رأيت الرجال " للعموم لكان إذا أريد به الخصوص كان المخبر كاذبا ، كما لو قال : " رأيت عشرين ولم ير غير عشرة بخلاف ما إذا كانت للخصوص ، وأريد به العموم .
وخامسها : لو كانت للعموم ، لكان تأكيدها غير مفيد لغير ما أفادته ، فكان عبثا ، وكان الاستثناء منها نقضا .
وسادسها : ( ويخص من ) من أنها لو كانت للعموم لما أجمعت لأن الجمع لا بد وأن يفيد ما لا يفيده المجموع ، وليس بعد العموم والاستغراق كثرة ، فلا يجمع ، وقد جمعت في باب
حكاية النكرات عند الاستفهام . فإنه إذا قال القائل : جاءني رجال . قلت : منون ؟ في حالة الوقف دون الوصل ، ومنه قول الشاعر :
أتوا ناري ، فقلت : منون أنتم ؟ فقالوا : الجن . قلت عموا ظلاما
>[2] فقد قال
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه : إنه شاذ غير معمول به .