[ ص: 47 ] المسألة الثالثة
اختلفوا في
دخول الأسماء المجازية في كلام الله تعالى :
فنفاه أهل الظاهر
والرافضة ، وأثبته الباقون .
>[1] احتج المثبتون بقوله تعالى : (
ليس كمثله شيء ) ، وبقوله تعالى : (
واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها ) ، وبقوله تعالى : (
جدارا يريد أن ينقض ) .
والأول من باب التجوز بالزيادة ، ولهذا لو حذفت الكاف بقي الكلام مستقلا .
والثاني من باب النقصان ، فإن المراد به أهل القرية لاستحالة سؤال القرية والعير وهي البهائم .
والثالث من باب الاستعارة لتعذر الإرادة من الجدار .
وإذا امتنع حمل هذه الألفاظ على ظواهرها في اللغة ، فما تكون محمولة عليه هو المجاز .
فإن قيل : لا نسلم التجوز فيما ذكرتموه من الألفاظ ، أما قوله تعالى : (
ليس كمثله شيء ) فهو حقيقة في نفي التشبيه ; إذ الكاف للتشبيه .
وأما قوله تعالى : (
واسأل القرية ) فالمراد به مجتمع الناس ، فإن القرية مأخوذة من الجمع ، ومنه يقال : قرأت الماء في الحوض أي جمعته ، وقرأت الناقة لبنها في ضرعها أي جمعته ، ويقال لمن صار معروفا بالضيافة : مقري ، ويقري لاجتماع الأضياف عنده . وسمي القرآن قرآنا لذلك أيضا لاشتماله على مجموع السور والآيات ، وأما العير فهي القافلة ومن فيها من الناس . ثم وإن كان اسم القرية للجدران والعير للبهائم غير أن الله تعالى قادر على إنطاقها ، وزمن النبوة زمن خرق العوائد فلا يمتنع نطقها بسؤال النبي لها .
[ ص: 48 ] وقوله تعالى : (
جدارا يريد أن ينقض ) فمحمول أيضا على حقيقته ; لأنه لا يتعذر على الله تعالى خلق الإرادة فيه .
سلمنا دلالة ما ذكرتموه على التجوز ، لكنه معارض بما يدل على عدمه ، وذلك لأن المجاز كذب ، ولذلك يصدق نفيه عند قول القائل للبليد ( حمار ) وللإنسان الشجاع ( أسد ) ، ونقيض النفي الصادق يكون كاذبا ، ولأن المجاز هو الركيك من الكلام ، وكلام الرب تعالى مما يصان عنه .
سلمنا أنه ليس بكذب ، غير أنه إنما يصار إليه ثم العجز عن الحقيقة ويتعالى الرب عن ذلك .
سلمنا أنه غير متوقف على العجز عن الحقيقة ، غير أنه مما لا يفيد معناه بلفظه دون قرينة ، وربما تخفى فيقع الالتباس على المخاطب ، وهو قبيح من الحكيم .
سلمنا أنه لا يفضي إلى الالتباس غير أنه إذا خاطب بالمجاز وجب وصفه بكونه متجوزا نظرا إلى الاشتقاق كما في الواحد منا وهو خلاف الإجماع .
سلمنا عدم اتصافه غير أن كلام الله تعالى حق فله حقيقة والحقيقة مقابلة للمجاز .
والجواب قولهم : (
ليس كمثله شيء ) لنفي التشبيه ليس كذلك ، فإنه لو كانت الكاف هاهنا للتشبيه لكان معنى النفي : ليس مثل مثله شيء ، وهو تناقض ، ضرورة أنه مثل لمثله ، فالمثل في الآية زائد ، والمراد من قولهم مثلك لا يقول هذا المشارك له في صفاته .
وقولهم : المراد من القرية الناس المجتمعون ، ليس كذلك لأن القرية هي المحل الذي يقع فيه الاجتماع لا نفس الاجتماع ، ومن ذلك سمي الزمان الذي فيه يجتمع دم الحيض قرء ، وكذلك يقال : القاري لجامع القرآن ، والمقري لجامع الأضياف .
قولهم : إن العير هي القافلة المجتمعة من الناس .
قلنا : من الناس والبهائم لا نفس الناس فقط ، ولهذا لا يقال لمجتمع الناس من غير أن يكون معهم بهائم : قافلة .
[ ص: 49 ] قولهم : لو سأل لوقع الجواب .
قلنا : جواب الجدران والبهائم غير واقع على وفق الاختيار في عموم الأوقات ، بل إن وقع فإنما يقع بتقدير تحدي النبي عليه السلام به . ولم يكن كذلك فيما نحن فيه ، فلا يمكن الاعتماد عليه ، ثم وإن أمكن تخيل ما قالوه مع بعده فبماذا يعتذر عن قوله تعالى : (
تجري من تحتها الأنهار ) والأنهار غير جارية ، وعن قوله تعالى : (
واشتعل الرأس شيبا ) وهو غير مشتعل ، وعن قوله تعالى : (
واخفض لهما جناح الذل ) والذل لا جناح له ، وقوله تعالى : (
الحج أشهر معلومات ) والأشهر ليست هي الحج وإنما هي ظرف لأفعال الحج ، وقوله تعالى : (
لهدمت صوامع وبيع وصلوات ) والصلوات لا تهدم وقوله : (
أو جاء أحد منكم من الغائط ) ، وقوله : (
الله نور السماوات والأرض ) ، وقوله : (
فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ) والقصاص ليس بعدوان ، وقوله : (
وجزاء سيئة سيئة مثلها ) ، وقوله : (
الله يستهزئ بهم ) ، (
ويمكرون ويمكر الله ) ، وقوله : (
كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ) ، وقوله تعالى : (
أحاط بهم سرادقها ) إلى ما لا يحصى ذكره من المجازات .
وعن المعارضة الأولى بمنع كون المجاز كذبا ، فإنه إنما يكون كذبا أن لو أثبت ذلك حقيقة لا مجازا ، كيف وإن الكذب مستقبح عند العقلاء بخلاف الاستعارة والتجوز فإنه عندهم من المستحسنات .
قولهم : إنه من ركيك الكلام ، ليس كذلك بل ربما كان المجاز أفصح وأقرب إلى تحصيل مقاصد المتكلم البليغ على ما سبق .
وعن الثانية بمنع ما ذكروه من اشتراط المصير إلى المجاز بالعجز عن الحقيقة ، بل إنما يصار إليه مع القدرة على الحقيقة لما ذكرناه من المقاصد فيما تقدم .
وعن الثالثة أنها مبنية على القول بالتقبيح العقلي وقد أبطلناه .
>[2] [ ص: 50 ] كيف وهو لازم على الخصوم فيما ورد من الآيات المتشابهات ، فما هو الجواب في المتشابهات ؟ هو الجواب لنا هاهنا .
وعن الرابعة أنه إنما لم يسم متجوزا ; لأن ذلك مما يوهم التسمح في أقواله بالقبيح ، ولهذا يفهم منه ذلك عند قول القائل : ( فلان متجوز في مقاله ) . . .
>[3] ، فيتوقف إطلاقه في حق الله تعالى على الإطلاق الشرعي ولم يرد .
وعن الخامسة أن كلام الله وإن كان له حقيقة فبمعنى كونه صدقا لا بمعنى الحقيقة المقابلة للمجاز .