[ ص: 260 ] المسألة السادسة عشرة
إذا
ورد خطاب خاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - كقوله تعالى : (
يا أيها المزمل قم الليل ) ، (
يا أيها المدثر قم فأنذر ) ، (
يا أيها النبي اتق الله ) ، (
لئن أشركت ليحبطن عملك ) لا يعم الأمة ذلك الخطاب عند أصحابنا خلافا
لأبي حنيفة nindex.php?page=showalam&ids=12251وأحمد بن حنبل وأصحابهما في قولهم : إنه يكون خطابا للأمة إلا ما دل الدليل فيه على الفرق .
ودليلنا في ذلك أن الخطاب الوارد نحو الواحد موضوع في أصل اللغة لذلك الواحد ، فلا يكون متناولا لغيره بوضعه
>[1] .
ولهذا فإن السيد إذا أمر بعض عبيده بخطاب يخصه لا يكون أمرا للباقين .
وكذلك في النهي والإخبار وسائر أنواع الخطاب .
كيف وإنه من المحتمل أن يكون الأمر للواحد المعين مصلحة له ، وهو مفسدة في حق غيره ، وذلك كما في أمر الطبيب لبعض الناس بشرب بعض الأدوية ، فإنه لا يكون ذلك أمرا لغيره لاحتمال التفاوت بين الناس في الأمزجة والأحوال المقتضية لذلك الأمر .
ولهذا خص النبي - صلى الله عليه وسلم - بأحكام لم يشاركه فيها أحد من أمته من الواجبات والمندوبات والمحظورات والمباحات ، ومع امتناع اتحاد الخطاب
>[2] وجواز الاختلاف في الحكمة والمقصود يمتنع التشريك في الحكم ، اللهم إلا أن يقوم دليل من خارج يدل على الاشتراك في العلة الداعية إلى ذلك الحكم ، فالاشتراك في الحكم يكون مستندا إلى نفس القياس لا إلى نفس الخطاب الخاص بمحل التنصيص أو دليل آخر .
[ ص: 261 ] فإن قيل : نحن لا ننكر أن الخطاب الخاص بالواحد لا يكون خطابا لغيره مطلقا ، بل المدعى أن من كان مقدما على قوم ، وقد عقدت له الولاية والإمارة عليهم وجعل له منصب الاقتداء به ، فإنه إذا قيل له : اركب لمناجزة العدو وشن الغارة عليه وعلى بلاده ، فإن أهل اللغة يعدون ذلك أمرا لأتباعه وأصحابه .
وكذلك إذا أخبر عنه بأنه قد فتح البلد الفلاني وكسر العدو ، فإنه يكون إخبارا عن أتباعه أيضا ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - ممن قد ثبت كونه قدوة للأمة ومتبعا لهم ، فأمره ونهيه يكون أمرا ونهيا لأمته إلا ما دل الدليل فيه على الفرق
>[3] .
ويدل على صحة ما ذكرناه قوله تعالى : (
يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن ) ، ولم يقل إذا طلقت النساء فطلقهن ، وذلك يدل على أن خطابه لأمته ، وأيضا قوله تعالى : (
فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا ) أخبره أنه إنما أباحه ذلك ليكون ذلك مباحا للأمة ، ولو كانت الإباحة خاصة به لما انتفى الحرج عن الأمة .
وأيضا فإنه قد ورد الخطاب بتخصيصه - عليه السلام - بأحكام دون أمته كقوله تعالى : (
وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي ) إلى قوله : (
خالصة لك من دون المؤمنين ) ، وكقوله تعالى : (
ومن الليل فتهجد به نافلة لك ) ، ولو لم يكن الخطاب المطلق له خطابا لأمته ، بل خاصا به لما احتيج إلى بيان التخصيص به هاهنا .
وما ذكرتموه من احتمال التفاوت في المصلحة والمفسدة فغير قادح مع ظهور المشاركة في الخطاب كما تقرر .
ولهذا جاز تكليف الكل مع هذا لظهور الخطاب ، وجاز
تعدية الحكم من الأصل إلى الفرع عند ظن الاشتراك في الداعي مع احتمال التفاوت بين الأصل والفرع في المصلحة والمفسدة .
[ ص: 262 ] والجواب لا نسلم أن أمر المقدم يكون أمرا لأتباعه لغة ، ولهذا فإنه يصح أن يقال : أمر المقدم ولم يأمر الأتباع ، وإنه لو حلف أنه لم يأمر الأتباع لم يحنث بالإجماع .
ولو كان أمره للمقدم أمرا لأتباعه لحنث ، نعم غايته أنه يفهم عند أمر المقدم بالركوب وشن الغارة لزوم توقف مقصود الأمر على اتباع أصحابه له ، فكان ذلك من باب الاستلزام لا من باب دلالة اللفظ مطابقة ولا ضمنا ، ولا يلزم مثله في النبي - صلى الله عليه وسلم - بشيء من العبادات أو بتحريم شيء من الأفعال أو إباحتها من حيث إنه لا يتوقف المقصود من ذلك على مشاركة الأمة له في ذلك .
وقوله تعالى : (
إذا طلقتم النساء ) ، فخطاب عام مع الكل على وجه يدخل فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيره من الأمة ، وتخصيص النبي في أول الآية بالنداء جرى مجرى التشريف والتكريم له
>[4] .
كيف وإن في الآية ما يدل على أن خطاب النبي لا يكون خطابا للأمة ، فإنه لو كان كذلك لما احتيج إلى قوله : (
طلقتم النساء فطلقوهن ) ، لأن قوله : إذا طلقت النساء فطلقهن كاف في خطاب الأمة مع اتساقه مع أول الآية .
وقوله تعالى : (
فلما قضى زيد منها وطرا ) لا حجة فيه على المقصود .
وقوله : (
لكي لا يكون على المؤمنين حرج ) ليس فيه ما يدل على أن نفي الحرج عن المؤمنين في أزواج أدعيائهم مدلول لقوله زوجناكها ، بل غايته أن رفع الحرج عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لمقصود رفع الحرج عن المؤمنين ، وذلك حاصل بقياسهم عليه بواسطة دفع الحاجة وحصول المصلحة ، وعموم الخطاب غير متعين لذلك
>[5] .
[ ص: 263 ] وما ذكروه من الآيات الدالة على خصوصية النبي - صلى الله عليه وسلم - بما ذكروه لا يدل على أن مطلق الخطاب له عام لأمته ، بل إنما كان ذلك لقطع إلحاق غيره به في تلك الأحكام بطريق القياس ، ولو لم يرد التخصيص لأمكن الإلحاق بطريق القياس
>[6] .