المسألة الحادية والعشرون
ورود الخطاب على لسان الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقوله : ( يا أيها الذين آمنوا ) ، ( يا أيها الناس ) ، ( يا عبادي ) يدخل الرسول في عمومه عندنا ، وعند أكثر العلماء خلافا لطائفة من الفقهاء والمتكلمين .
ومنهم من قال : كل
خطاب ورد مطلقا ولم يكن الرسول مأمورا في أوله بأمر الأمة به كهذه الآيات ، وإن كان مأمورا في صدر الخطاب بالأمر كقوله - تعالى - : (
قل يا أيها الناس ) ، فهو غير داخل فيه وإليه ذهب
nindex.php?page=showalam&ids=14667أبو بكر الصيرفي والحليمي من أصحاب
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي >[1] .
حجة من قال : يدخل في العموم ، وهو المختار ، حجتان .
الأولى : أن هذه الصيغ عامة لكل إنسان وكل مؤمن وكل عبد ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - سيد الناس والمؤمنين والنبوة غير مخرجة له عن إطلاق هذه الأسماء عليه ، فلا تكون مخرجة له عن هذه العمومات .
[ ص: 273 ] الحجة الثانية : أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أمر الصحابة بأمر وتخلف عنه ولم يفعله ، فإنهم كانوا يسألونه : ما بالك لم تفعله ؟ ولو لم يعقلوا دخوله فيما أمرهم به لما سألوه عن ذلك .
وذلك كما روي عنه - صلى الله عليه وسلم -
أنه أمر أصحابه بفسخ الحج إلى العمرة ولم يفسخ ، فقالوا له : " أمرتنا بالفسخ ولم تفسخ " ، ولم ينكر عليهم ما فهموه من دخوله في ذلك الأمر ، بل عدل إلى الاعتذار ، وهو قوله : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10355261إني قلدت هديا " وروي عنه أنه قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10355262لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة "
>[2] .
فإن قيل : يمنع أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - داخلا تحت عموم هذه الأوامر ثلاثة أوجه : الأول : أنه إذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - آمرا لأمته بهذه الأوامر فلو كان مأمورا بها لزم من ذلك أن يكون بخطاب واحد آمرا ومأمورا ، وهو ممتنع ولأنه يلزم أن يكون آمرا لنفسه ، وأمر الإنسان لنفسه ممتنع لوجهين :
الأول : أن الأمر طلب الأعلى من الأدنى ، والواحد لا يكون أعلى من نفسه وأدنى منها .
الثاني : أنه وقع الاتفاق على أن أمر الإنسان لنفسه على الخصوص ممتنع ، فكذلك أمره لنفسه على العموم .
الثاني من الوجوه الثلاثة : أنه يلزم من ذلك أن يكون بخطاب واحد مبلغا ومبلغا إليه ، وهو محال .
الثالث : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد اختص بأحكام لم تشاركه فيها الأمة كوجوب ركعتي الفجر والضحى والأضحى وتحريم الزكاة عليه ، وأبيح له النكاح بغير ولي ولا مهر ولا شهود ، والصفي من المغنم ، ونحوه من الخصائص ، وذلك يدل على مزيته ، وانفراده عن الأمة في الأحكام التكليفية ، فلا يكون داخلا تحت الخطاب المتناول لهم .
[ ص: 274 ] قلنا : جواب الأول أن ما ذكروه مبني على كون الرسول آمرا ، وليس كذلك ، بل هو مبلغ لأمر الله ، وفرق بين الآمر والمبلغ للأمر .
ولهذا أعاد صيغ الأوامر له بالتبليغ كقوله : (
قل أوحي إلي ) ، و (
واتل ما أوحي إليك ) ونحوه .
وجواب الثاني : أنه مبلغ للأمة بما ورد على لسانه ، وليس مبلغا لنفسه بذلك الخطاب ، بل بما سمعه من
جبريل ، عليه السلام .
وجواب الثالث : أن اختصاصه ببعض الأحكام غير موجب لخروجه عن عمومات الخطاب .
ولهذا فإن الحائض والمريض والمسافر والمرأة كل واحد قد اختص بأحكام لا يشاركه غيره فيها ، ولم يخرج بذلك عن الدخول في عمومات الخطاب
>[3] ، والله أعلم بالصواب .