المسألة الثانية والعشرون
>[1] الخطاب الوارد شفاها في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - والأوامر العامة كقوله - تعالى - : ( يا أيها الناس ) ، و ( يا أيها الذين آمنوا ) ونحوه هل يخص الموجودين في زمنه أو هو عام لهم ولمن بعدهم ؟ اختلفوا فيه ، فذهب أكثر أصحابنا وأصحاب
أبي حنيفة والمعتزلة إلى اختصاصه بالموجودين في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولا يثبت حكمه في حق من بعدهم إلا بدليل آخر .
وذهبت الحنابلة وطائفة من السالفين والفقهاء إلى تناول ذلك لمن وجد بعد عصر النبي - صلى الله عليه وسلم .
حجة النافين من وجهين : الأول : أن المخاطبة شفاها بقوله تعالى : ( يا أيها الناس ) ، و ( ويا أيها الذين آمنوا ) تستدعي كون المخاطب موجودا أهلا للخطاب إنسانا مؤمنا ، ومن لم يكن موجودا في وقت الخطاب لم يكن متصفا بشيء من هذه الصفات ، فلا يكون الخطاب متناولا له
>[2] .
[ ص: 275 ] الثاني : أن
خطاب الصبي والمجنون الذي لا يميز ممتنع حتى إن من شافهه بالخطاب استهجن كلامه وسفه في رأيه ، مع أن حالهما لوجودهما واتصافهما بصفة الإنسانية وأصل الفهم وقبولهما للتأديب بالضرب وغيره أقرب إلى الخطاب لهما ممن لا وجود له
>[3] .
احتج الخصوم بالكتاب والسنة وإجماع الأمة والمعقول ، أما الكتاب فقوله - تعالى - : (
وما أرسلناك إلا كافة للناس ) ، وأما السنة فقوله - صلى الله عليه وسلم - : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10355263بعثت إلى الأحمر والأسود "
>[4] ، ولو لم يكن خطابه متناولا لمن بعده لم يكن رسولا إليه ولا مبلغا إليه شرع الله ، تعالى ، وهو خلاف الإجماع .
وأيضا قوله - صلى الله عليه وسلم - : "
حكمي على الواحد حكمي على الجماعة "
>[5] ، ولفظ ( الجماعة ) يستغرق كل من بعده .
فلو لم يكن حكمه على من في زمانه حكما على غيرهم كان على خلاف الظاهر .
[ ص: 276 ] وأما الإجماع فهو أن الصحابة ومن بعدهم من التابعين وإلى زماننا هذا ما زالوا يحتجون في المسائل الشرعية على من وجد بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - بالآيات والأخبار الواردة على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولولا عموم تلك الدلائل اللفظية لمن وجد بعد ذلك لما كان التمسك بها صحيحا ، وكان الاسترواح إليها خطأ ، وهو بعيد عن أهل الإجماع .
وأما المعقول : فهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد التخصيص ببعض الأمة نص عليه كما ذكرناه في مسألة خطاب النبي - صلى الله عليه وسلم - للواحد هل هو خطاب للباقين ؟ ولولا أن الخطاب المطلق العام يكون خطابا للكل لما احتاج إلى التخصيص .
والجواب على النصوص الدالة على كون النبي - صلى الله عليه وسلم - مبعوثا إلى الناس كافة أنها إنما تلزم أن لو توقف مفهوم الرسالة والبعثة إلى كل الناس على المخاطبة للكل بالأحكام الشرعية شفاها ، وليس كذلك ، بل ذلك يتحقق بتعريف البعض بالمشافهة وتعريف البعض بنصب الدلائل والأمارات ، وقياس بعض الوقائع على بعض
>[6] .
ويدل على ذلك أن أكثر الأحكام الشرعية لم يثبت بالخطاب شفاها لقلة النصوص وندرتها وكثرة الوقائع
>[7] ، وما لزم من ذلك أن لا يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - رسولا ولا مبلغا بالنسبة إلى الأحكام التي لم تثبت بالخطاب شفاها .
فإن قيل : والدلائل التي يمكن الاحتجاج بها في الأحكام الشرعية على من وجد بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - غير الخطاب فيما ذكرتموه ، إنما يعلم كونها حجة بالدلائل الخطابية ، فإذا كان الخطاب الموجود في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يتناول من بعده فقد تعذر الاحتجاج به عليه .
[ ص: 277 ] قلنا : أمكن معرفة كونها حجة بالنقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه حكم بكونها حجة على من بعده أو بالإجماع المنقول عن الصحابة على ذلك
>[8] .
وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - : "
حكمي على الواحد حكمي على الجماعة " فالكلام في اختصاصه بالموجودين في زمنه كالكلام في الأول .
وأما انعقاد الإجماع على صحة الاستدلال بالآيات والأخبار الواردة على لسانه - صلى الله عليه وسلم - على من وجد بعده ، وهو أشبه حجج الخصوم ، فجوابه أنا بينا امتناع المخاطبة لمن ليس بموجود بما لا مراء فيه
>[9] .
وعند ذلك فيجب اعتقاد استناد أهل الإجماع إلى النصوص من جهة معقولها ، لا من جهة ألفاظها جمعا بين الأدلة .
وأما ما ذكروه من المعنى فقد سبق جوابه في مسألة خطاب النبي للواحد من الأمة
>[10] .