المسألة الثانية
اختلف القائلون بالعموم وتخصيصه في
الغاية التي يقع انتهاء التخصيص إليها ، فمنهم من قال بجواز انتهاء التخصيص في جميع ألفاظ العموم إلى الواحد .
ومنهم من أجاز ذلك في ( من ) خاصة دون ما عداها من أسماء الجموع كالرجال والمسلمين ، وجعل نهاية التخصيص فيها أن يبقى تحتها ثلاثة ، وهذا هو مذهب
القفال من أصحاب
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي .
ومنهم من جعل نهاية التخصيص في جميع الألفاظ العامة جمعا كثيرا يعرف
[ ص: 284 ] من مدلول اللفظ ، وإن لم يكن محددا ، وهو مذهب
أبي الحسين البصري ، وإليه ميل إمام الحرمين وأكثر أصحابنا
>[1] .
احتج من جوز الانتهاء في التخصيص إلى الواحد بالنص ، والإطلاق والمعنى .
أما النص فقوله - تعالى - : (
إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) وأراد به نفسه وحده .
وأما الإطلاق فقول
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه )
nindex.php?page=showalam&ids=37لسعد بن أبي وقاص ، وقد أنفذ إليه
القعقاع مع ألف فارس : " قد أنفذت إليك ألفي رجل " ، أطلق اسم الألف الأخرى وأراد بها
القعقاع >[2] .
وأما المعنى فمن وجهين : الأول : أنه لو امتنع الانتهاء في التخصيص إلى الواحد فإما أن يكون ؛ لأن الخطاب صار مجازا ، أو لأنه إذا استعمل اللفظ فيه لم يكن مستعملا فيما هو حقيقة فيه من الاستغراق ، وكل واحد من الأمرين لو قيل بكونه مانعا لزم امتناع تخصيص العام مطلقا ولا بعدد ما ؛ لأنه يكون مجازا في ذلك العدد ، وغير مستعمل فيما هو حقيقة فيه .
وذلك خلاف الإجماع .
الثاني : أن استعمال اللفظ في الواحد من حيث إنه بعض من الكل يكون مجازا كما في استعماله في الكثرة ، فإذا جاز التجوز باللفظ العام عن الكثرة فكذا في الواحد .
ولقائل أن يقول : أما الآية فهي محمولة على تعظيم المتكلم ، وهو بمعزل عن التخصيص بالواحد .
وأما الإطلاق العمري فمحمول على قصد بيان أن ذلك الواحد قائم مقام الألف ، وهو غير معنى التخصيص .
[ ص: 285 ] وأما المعنى الأول فلا نسلم الحصر فيما قيل من القسمين ، بل المنع من ذلك إنما كان لعدم استعماله لغة .
وأما المعنى الثاني : فمبني على جواز إطلاق اللفظ العام وإرادة الواحد مجازا ، وهو محل النزاع .
وأما حجة
أبي الحسين البصري ، فإنه قال لو قال القائل : قتلت كل من في البلد ، وأكلت كل رمانة في الدار ، وكان فيها تقديرا ألف رمانة ، وكان قد قتل شخصا واحدا أو ثلاثة ، وأكل رمانة واحدة أو ثلاث رمانات ، فإن كلامه يعد مستقبحا مستهجنا عند أهل اللغة .
وكذلك إذا قال لعبده : من دخل داري فأكرمه ، أو قال لغيره : من عندك ؟ وقال : أردت به زيدا وحده أو ثلاثة أشخاص معينة أو غير معينة كان قبيحا مستهجنا ، ولا كذلك فيما إذا حمل على الكثرة القريبة من مدلول اللفظ ، فإنه يعد موافقا مطابقا لوضع أهل اللغة .
وهذه الحجة ، وإن كانت قريبة من السداد ، وقد قلده فيها جماعة كثيرة إلا أن لقائل أن يقول : متى يكون ذلك مستهجنا منه ، إذا كان مريدا للواحد من جنس ذلك العدد الذي هو مدلول اللفظ ، وقد اقترن به قرينة ، أو إذا لم يكن ؟ الأول ممنوع ، والثاني مسلم .
وبيان ذلك ، النص وصحة الإطلاق .
أما النص فقوله - تعالى - : (
الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم ) ، وأراد بالناس القائلين ،
نعيم بن مسعود الأشجعي >[3] بعينه من جملة الناس ، ولم يعد ذلك مستهجنا لاقترانه بالدليل .
وأما الإطلاق فصحة قول القائل : أكلت الخبز واللحم وشربت الماء ، والمراد به واحد من جنس مدلولات اللفظ العام ، ولم يكن ذلك مستقبحا لاقترانه بالدليل .
نعم إذا أطلق اللفظ العام وكان الظاهر منه إرادة الكل أو ما يقاربه في الكثرة ، وهو مريد للواحد البعيد من ظاهر اللفظ من غير اقتران دليل به يدل عليه ، فإنه يكون مستهجنا .
وإذا عرف ضعف المأخذ من الجانبين فعليك بالاجتهاد في الترجيح
>[4] .