[ ص: 318 ] المسألة الثانية
اتفق العلماء على جواز
تخصيص الكتاب بالكتاب خلافا لبعض الطوائف ، ودليله المنقول والمعقول .
أما المنقول : فهو أن قوله : (
وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ) ورد مخصصا لقوله - تعالى - : (
والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا ) ، وقوله - تعالى - : (
والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ) ورد مخصصا لقوله - تعالى - : (
ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ) ، والوقوع دليل الجواز .
وأما المعقول : فهو أنه إذا اجتمع نصان من الكتاب أحدهما عام والآخر خاص وتعذر الجمع بين حكميهما فإما أن يعمل بالعام أو الخاص ، فإن عمل بالعام لزم منه إبطال الدليل الخاص مطلقا ، ولو عمل بالخاص لا يلزم منه إبطال العام مطلقا لإمكان العمل به فيما خرج عنه كما سبق فكان العمل بالخاص أولى ، ولأن الخاص أقوى في دلالته وأغلب على الظن لبعده عن احتمال التخصيص بخلاف العام ، فكان أولى بالعمل .
وعند ذلك ، فإما أن يكون الدليل الخاص المعمول به ناسخا لحكم العام في الصورة الخارجة عنه أو مخصصا له ، والتخصيص أولى من النسخ لثلاثة أوجه : الأول ، أن النسخ يستدعي ثبوت أصل الحكم في الصورة الخاصة ورفعه بعد ثبوته ، والتخصيص ليس فيه سوى دلالته على عدم إرادة المتكلم للصور المفروضة بلفظ العام ، فكان ما يتوقف عليه النسخ أكثر مما يتوقف عليه التخصيص فكان التخصيص أولى .
الثاني : أن النسخ رفع بعد الإثبات ، والتخصيص منع من الإثبات ، والدفع أسهل من الرفع .
الثالث : أن وقوع التخصيص في الشرع أغلب من النسخ فكان الحمل على التخصيص أولى إدراجا له تحت الأغلب ، وسواء جهل التاريخ أو علم ، وسواء كان الخاص متقدما أو متأخرا .
[ ص: 319 ] فإن قيل : لو كان الكتاب مبينا للكتاب لخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - عن كونه مبينا للكتاب ، وهو خلاف قوله - تعالى - : (
لتبين للناس ما نزل إليهم ) ، وهو ممتنع .
قلنا : إضافة البيان إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس فيه ما يمنع من كونه مبينا للكتاب بالكتاب إذ الكل وارد على لسانه ، فذكره الآية المخصصة يكون بيانا منه ويجب حمل وصفه بكونه مبينا على أن البيان وارد على لسانه ، كان الوارد على لسانه الكتاب أو السنة لما فيه من موافقة عموم قوله - تعالى - : (
ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء ) ، فإن مقتضاه أن يكون الكتاب مبينا لكل ما هو من الكتاب ، لكونه شيئا ، غير أنا خالفناه في البعض فيجب بالبعض الآخر تقليلا لمخالفة الدليل العام .
فإن قيل : ما ذكرتموه وإن صح فيما إذا كان الخاص متأخرا فلا يصح فيما إذا جهل التاريخ ، وذلك ؛ لأنه يحتمل أن يكون الخاص مقدما فيكون العام بعده ناسخا له ، ويحتمل أن يكون العام متقدما فيكون الخاص مخصصا له ولم يترجح أحدهما على الآخر ، فوجب التعاون
>[1] والتساقط والرجوع إلى دليل آخر كما ذهب إليه أبو حنيفة
والقاضي أبو بكر والإمام
أبو المعالي .
وإن سلمنا كون الخاص مخصصا مع الجهل بالتاريخ فلا يصح فيما إذا كان العام متأخرا عن الخاص ، فإنه يتعين أن يكون ناسخا لمدلول الخاص ، لا أن يكون الخاص مخصصا للعام على ما ذهب إليه أصحاب
أبي حنيفة وبعض
المعتزلة .
وبيانه من أربعة أوجه : الأول أنه إذا قال : اقتلوا المشركين ، فهو جار مجرى قوله : اقتلوا زيدا المشرك وعمرا المشرك وخالدا ، وهلم جرا .
فإذا الخاص كقوله : اقتلوا زيدا المشرك إذا ورد العام بعده بنفي القتل عن الجميع فهو ناص على زيد ، ولو قال : اقتلوا زيدا ولا تقتلوا زيدا كان ناسخا له .
الثاني : أن الخاص المتقدم يمكن نسخه ، والعام الوارد بعده مما يمكن أن يكون ناسخا فكان ناسخا .
[ ص: 320 ] الثالث : هو أن الخاص المتقدم متردد بين كونه منسوخا ومخصصا لما بعده ، وذلك مما يمنع من كونه مخصصا ؛ لأن البيان لا يكون ملتبسا .
الرابع : قول ابن عباس : كنا نأخذ بالأحدث فالأحدث ، والعام المتأخر أحدث فوجب الأخذ به .
قلنا : أما الجواب عن التعارض عند الجهل بالتاريخ فيما ذكرناه من الأدلة السابقة على الترجيح .
وأما الجواب عن حجج أصحاب
أبي حنيفة : أما عن الأول فيمتنع كون العام في تناوله لما تحته من الأشخاص جار مجرى الألفاظ الخاصة ، إذ الألفاظ الخاصة بكل واحد غير قابلة للتخصيص بخلاف اللفظ العام .
وعن الثاني : أنه لا يلزم من إمكان نسخه للخاص الوقوع ، ولو لزم من الإمكان الوقوع للزم أن يكون الخاص مخصصا للعام لإمكان كونه مخصصا له ويلزم من ذلك أن يكون الخاص منسوخا ومخصصا لناسخه ، وهو محال .
وعن الثالث : أنهم إن أرادوا بتردد الخاص بين كونه منسوخا ومخصصا أن احتمال التخصيص مساو لاحتمال النسخ فهو ممنوع لما تقدم .
وإن أرادوا بذلك تطرق الاحتمالين إليه في الجملة فذلك لا يمنع من كونه مخصصا .
ولو منع ذلك من كونه مخصصا لمنع تطرق احتمال كون العام مخصصا بالخاص إليه من كونه ناسخا .
وعن الرابع : أنه قول واحد من الصحابة فيجب حمله على ما إذا كان الأحدث هو الخاص جمعا بين الأدلة .