الإحكام في أصول الأحكام

الآمدي - علي بن محمد الآمدي

صفحة جزء
المسألة الرابعة

اختلفوا في قوله - صلى الله عليه وسلم - : " لا صلاة إلا بطهور " >[1] ، " ولا صلاة إلا بفاتحة الكتاب " >[2] ، " ولا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل " >[3] ، " ولا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل " >[4] ونحوه .

[ ص: 17 ] فمذهب الكل أنه لا إجمال فيه ، خلافا للقاضي أبي بكر وأبي عبد الله البصري فإنهما قالا بإجماله لأن حرف النفي دخل على هذه المسميات مع تحققها ، فلا بد من إضمار حكم يلحق ، وتمام تقريره كما مر في المسألة المتقدمة .

والمختار : أنه لا إجمال في هذه الصور ، لأنه لا يخلو إما أن يقال بأن الشارع له في هذه الأسماء عرف أو لا عرف له فيها ، بل هي منزلة على الوضع اللغوي .

فإن قيل بالأول ، فيجب تنزيل كلام الشارع على عرفه ، إذ الغالب منه أنه إنما يناطقنا فيما له فيه عرف بعرفه ، فيكون لفظه منزلا على نفي الحقيقة الشرعية من هذه الأمور ونفي الحقيقة الشرعية ممكن .

والأصل حمل الكلام على ما هو حقيقة فيه .

وعلى هذا ، فلا إجمال ، وإن كان مسمى هذه الأمور بالوضع اللغوي غير منفي .

وإن قيل بالثاني فالإجمال أيضا إنما يتحقق إن لو لم يكن اللفظ ظاهرا بعرف استعمال أهل اللغة قبل ورود الشرع في مثل هذه الألفاظ في نفي الفائدة والجدوى وليس كذلك .

وبيانه أن المتبادر إلى الفهم من نفي كل فعل كان متحقق الوجود إنما هو نفي فائدته وجدواه .

ومنه قولهم : " لا علم إلا ما نفع ، ولا كلام إلا ما أفاد ، ولا حكم إلا لله ، ولا طاعة إلا له ، ولا بلد إلا بسلطان ، " إلى غير ذلك .

وإذا كان النفي محمولا على نفي الفائدة والجدوى فلا إجمال فيه .

وإن سلمنا أنه لا عرف للشارع ، ولا لأهل اللغة في ذلك ، وأنه لا بد من الإضمار غير أن الاتفاق واقع على أنه لا خروج للمضمر هاهنا عن الصحة والكمال ، وعند ذلك فيجب اعتقاد ظهوره في نفي الصحة والكمال لوجهين :

الأول : أنه أقرب إلى موافقة دلالة اللفظ على النفي لأنه إذا قال : " لا صلاة ، لا صوم إلا بكذا " فقد دل على نفي أصل الفعل بدلالة المطابقة ، وعلى صفاته بدلالة الالتزام ، فإذا تعذر العمل بدلالة المطابقة تعين العمل بدلالة الالتزام تقليلا لمخالفة الدليل .

[ ص: 18 ] الثاني : أنه إذا كان اللفظ قد دل على نفي العمل وعدمه ، فيجب عند تعذر حمل اللفظ على حقيقته حمله على أقرب المجازات الشبيهة به ، ولا يخفى أن مشابهة الفعل الذي ليس بصحيح ولا كامل للفعل المعدوم أكثر من مشابهة الفعل الذي نفي عنه أحد الأمرين دون الآخر ، فكان الحمل عليه أولى .

فإن قيل : ما ذكرتموه معارض من وجهين :

الأول : أنه يلزم منه الزيادة في الإضمار والتجوز المخالف للأصل .

الثاني : أن حمله على نفي الكمال دون الصحة مستيقن ، من حيث إنه يلزم من نفي الصحة نفي الكمال ، ولا عكس ، وإذا تقابلت الاحتمالات لزم الإجمال .

قلنا : بل الترجيح لما ذكرناه ؛ لأنه لا يلزم منه تعطيل دلالة اللفظ ، بخلاف ما ذكرتموه ، ولأنه على وفق النفي الأصلي ، وما ذكرتموه على خلافه ، فكان ما ذكرناه أولى .

وعلى هذا ، فقوله - صلى الله عليه وسلم - : " لا عمل إلا بنية ، وإنما الأعمال بالنيات " .

وإن لم يكن للشارع فيه عرف ، كما في الصلاة والصوم ونحوهما ، فعرف أهل اللغة في نفيه نفي الفائدة والجدوى ، كما قررناه فيما تقدم ، فلا إجمال فيه أيضا ، خلافا لأبي الحسين البصري وأبي عبد الله البصري وغيرهما من المعتزلة .

التالي السابق


الخدمات العلمية