وأما
المثبتون للترتيب ، فقد احتجوا بالنقل ، والحكم ، والمعنى .
أما النقل فقوله تعالى : (
يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا ) فإنه مقتض للترتيب .
وأيضا ما روي أنه لما نزل قوله تعالى : (
إن الصفا والمروة من شعائر الله ) قال الصحابة للنبي عليه السلام : ( بم نبدأ ) قال : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=10355092ابدؤوا بما بدأ الله به )
>[1] ولولا أن ( الواو ) للترتيب لما كان كذلك .
وأيضا ما روي
nindex.php?page=hadith&LINKID=10355093أن واحدا قام بين يدي رسول الله وقال : ( من أطاع الله ورسوله فقد اهتدى ومن عصاهما فقد غوى ) فقال عليه السلام : ( بئس خطيب القوم أنت ، قل : ومن عصى الله ورسوله فقد غوى ) >[2] ولو كانت ( الواو ) للجمع المطلق لما وقع الفرق .
[ ص: 67 ] وأيضا ما روي عن
عمر أنه قال لشاعر قال : (
كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا
) : لو قدمت الإسلام على الشيب لأجزتك . وكان
عمر من أهل اللسان ، وذلك يدل على الترتيب .
وأيضا ما روي أن الصحابة أنكروا على
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس وقالوا له : لم تأمرنا بالعمرة قبل الحج وقد قال الله : (
وأتموا الحج والعمرة لله ) وكانوا أيضا من أهل اللسان ، وذلك يدل على الترتيب ولولا أن ( الواو ) للترتيب لما كان كذلك .
وأما الحكم فإنه لو قال الزوج لزوجته قبل الدخول بها : أنت طالق وطالق وطالق ، وقع بها طلقة واحدة ، ولو كانت ( الواو ) للجمع المطلق لوقعت الثلاث ، كما لو قال لها : أنت طالق ثلاثا .
وأما المعنى فهو أن اللفظ يستدعي سببا ، والترتيب في الوجود صالح له فوجب الحمل عليه .
أجاب النافون عن النقل : أما الآية فلا نسلم أن الترتيب مستفاد منها ، بل من دليل آخر وهو أن النبي عليه السلام صلى ورتب الركوع قبل السجود وقال : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=10355094صلوا كما رأيتموني أصلي ) ولو كانت ( الواو ) للترتيب لما احتاج النبي عليه السلام إلى هذا البيان .
وأما قوله عليه السلام : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=10355092ابدؤوا بما بدأ الله به ) فهو دليل عليهم ، حيث سأله الصحابة عن ذلك مع أنهم من أهل اللسان ، ولو كانت ( الواو ) للترتيب لما احتاجوا إلى ذلك السؤال .
ولقائل أن يقول : ولو كانت للجمع المطلق لما احتاجوا إلى السؤال فيتعارضان ويبقى قوله عليه السلام : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=10355092ابدؤوا بما بدأ الله به ) وهو دليل الترتيب .
وأما قوله عليه السلام : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=10355095قل : ومن عصى الله ورسوله فقد غوى ) إنما قصد به إفراد ذكر الله تعالى أولا مبالغة في تعظيمه لا أن " الواو " للترتيب ، ويدل عليه أن معصية الله ورسوله لا انفكاك لإحداهما عن الأخرى حتى يتصور فيهما الترتيب .
[ ص: 68 ] وأما قول
عمر فمبني على قصد التعظيم بتقديم ذكر الأعظم لا على قصد الترتيب .
وأما قصة الصحابة مع
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس فلم يكن مستند إنكارهم لأمره بتقديم العمرة على الحج كون الآية مقتضية لترتيب العمرة بعد الحج ، بل لأنها مقتضية للجمع المطلق ، وأمره بالترتيب مخالف لمقتضى الآية ، كيف وإن فهمهم لترتيب العمرة على الحج من الآية معارض بما فهمه
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس وهو ترجمان القرآن .
وأما الحكم فهو ممنوع على أصل من يعتقد أن " الواو " للجمع المطلق ، وبه قال
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بن حنبل وبعض أصحاب
مالك nindex.php?page=showalam&ids=15124والليث بن سعد وربيعة بن أبي ليلى ، وقد نقل عن
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ما يدل عليه في القديم ، وإن سلم ذلك فالوجه في تخريجه أن يقال : إذا قال لها : أنت طالق ثلاثا ، فالأخير تفسير للأول ، والكلام يعتبر بجملته بخلاف قوله : أنت طالق وطالق وطالق .
وأما المعنى فهو منقوض بقوله : رأيت زيدا ، رأيت عمرا . فإن تقديم أحد الاسمين في الذكر لا يستدعي تقديمه في نفس الأمر إجماعا ، كيف وأنه يجوز أن يكون السبب في تقديمه ذكرا لزيادة حبه له واهتمامه بالإخبار عنه ، أو لأنه قصد الإخبار عنه لا غير ، ثم تجدد له قصد الإخبار عن الآخر عند إخباره عن الأول .
وبالجملة فالكلام في هذه المسألة متجاذب ، وإن كان الأرجح هو الأول في النفس .
وأما " الفاء " و " ثم " و " حتى " فإنها تقتضي الترتيب ، وتختلف من جهات أخر .
فأما " الفاء " فمقتضاها إيجاب الثاني بعد الأول من غير مهلة ، هذا مما اتفق الأدباء على نقله عن أهل اللغة ، وقوله تعالى : (
وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا ) وإن كان مجيء البأس لا يتأخر عن الهلاك ، فيجب تأويله بالحكم بمجيء البأس بعد هلاكها ضرورة موافقة النقل
>[3] ، وقوله تعالى : (
لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب )
[ ص: 69 ] ، وقوله تعالى : (
وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة ) فإنه وإن كان الإسحات بالعذاب مما يتراخى عن الافتراء بالكذب ، وكذلك الرهن مما يتراخى عن المداينة ، غير أنه يجب تأويله بأن حكم الافتراء الإسحات ، وحكم المداينة الرهنية ; لما ذكرناه من موافقة النقل .
وقد ترد " الفاء " مورد " الواو " كقول الشاعر :
(
بسقط اللوى بين الدخول فحومل
) .
وأما ( ثم ) فإنها توجب الثاني بعد الأول بمهلة ، وقوله تعالى : (
وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ) وإن كان الاهتداء يتراخى عن التوبة والإيمان والعمل الصالح ، فيجب حمله على دوام الاهتداء وثباته ضرورة موافقة النقل .
وقيل : إنها قد ترد بمعنى ( الواو ) كقوله تعالى : (
فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون ) لاستحالة كونه شاهدا بعد أن لم يكن شاهدا .
وأما ( حتى ) فموجبة لكون المعطوف جزءا من المعطوف عليه نحو قولك : مات الناس حتى الأنبياء ، وقدم الحاج حتى المشاة . فالأول أفضله والثاني دونه .
وثلاثة منها تشترك في تعليق الحكم بأحد المذكورين وهي : أو ، وإما ، وأم .
إلا أن ( أو ) و ( إما ) يقعان في الخبر والأمر والاستفهام ، و ( أم ) لا تقع إلا في الاستفهام ، غير أن ( أو ) و ( إما ) في الخبر للشك ، تقول : جاء زيد أو عمرو ، وجاء إما زيد وإما عمرو ، وفي الأمر للتخيير تقول : اضرب زيدا أو عمرا ، واضرب إما زيدا وإما عمرا . وللإباحة تقول : جالس
الحسن أو
nindex.php?page=showalam&ids=16972ابن سيرين . و ( أو ) في الاستفهام مع الشك في وجود الأمرين ، و ( أم ) مع العلم بأحدهما والشك في تعيينه .
وثلاثة منها تشترك في أن المعطوف مخالف للمعطوف عليه في حكمه وهي : لا ، وبل ، ولكن . تقول : جاءني زيد لا عمر بل عمر ، وما جاءني زيد لكن عمرو . ومنها حروف النفي وهي : ما ، ولا ، ولم ، ولما ، ولن ، وإن بالتخفيف .
[ ص: 70 ] فأما ( ما ) فلنفي الحال أو الماضي القريب من الحال ، كقولك ما تفعل ما فعل .
وأما ( لا ) فلنفي المستقبل إما خبرا كقولك : لا رجل في الدار ، أو نهيا كقولك : لا تفعل ، أو دعاء كقولك : لا رعاك الله .
وأما ( لم ) و ( لما ) فلقلب المضارع إلى الماضي تقول : لم يفعل ، ولما يفعل .
و ( لن ) لتأكيد المستقبل كقولك : لن أبرح اليوم مكاني تأكيدا لقولك : لا أبرح اليوم مكاني .
و ( إن ) لنفي الحال كقوله تعالى : (
إن كانت إلا صيحة واحدة ) .
ومنها
حروف التنبيه وهي : ها ، وألا ، وأما .
تقول : ها أفعل كذا ، وألا زيد قائم ، وأما إنك خارج .
ومنها
حروف النداء وهي : يا ، وأيا ، وهيا ، وأي ، والهمزة ، ووا .
والثلاثة الأول لنداء البعيد ، وأي والهمزة للقريب ، ووا للندبة .
ومنها
حروف التصديق والإيجاب وهي : نعم ، وبلى ، وأجل ، وجير ، وإي ، وإن . فنعم مصدقة لما سبق من قول القائل : قام زيد ما قام زيد .
و ( بلى ) لإيجاب ما نفي كقولك : بلى ، لمن قال : ما قام زيد .
و ( أجل ) لتصديق الخبر كقولك : أجل ، لمن قال : جاء زيد .
و ( جير ) و ( إن ) و ( إي ) للتحقيق ، تقول : جير لأفعلن كذلك ، وإن الأمر كذا ، وإي والله .
ومنها
حروف الاستثناء وهي : إلا ، وحاشا ، وعدا ، وخلا .
والحرف المصدري ، وهو ( ما ) في قولك : أعجبني ما صنعت ، أي صنعك . و ( أن ) في قولك : أريد أن تفعل كذا ، أي فعلك .
وحروف التحضيض وهي : لولا ، ولوما ، وهلا ، وألا فعلت كذا ، إذا أردت الحث على الفعل .
[ ص: 71 ] وحرف تقريب الماضي من الحال ، وهو ( قد ) في قولك : قد قام زيد .
وحروف الاستفهام وهي : الهمزة ، وهل في قولك : أزيد قام ؟ وهل زيد قائم ؟
وحروف الاستقبال وهي : السين ، وسوف ، وأن ، ولا ، وإن في قولك : سيفعل ، وسوف يفعل ، وأريد أن تفعل ، ولا تفعل ، وإن تفعل .
وحروف الشرط وهي : إن ، ولو ، في قولك : إن جئتني ، ولو جئتني أكرمتك .
وحرف التعليل وهو " كي " في قولك : قصدت فلانا كي يحسن إلي .
وحرف الردع وهو " كلا " في قولك جوابا لمن قال لك " إن الأمر كذا .
ومنها
حروف اللامات وهي : لام التعريف الداخلة على الاسم المنكر لتعريفه كالرجل ، ولام جواب القسم في قولك : والله لأفعلن كذا ، والموطئة للقسم في قولك : والله لئن أكرمتني لأكرمنك ، ولام جواب ( لو ) و ( لولا ) في قولك : لو كان كذا لكان كذا ، ولولا كان كذا لكان كذا ، ولام الأمر في قولك : ليفعل زيد ، ولام الابتداء في قولك : لزيد منطلق .
ومنها " تاء التأنيث الساكنة " في قولك : فعلت .
ومنها التنوين والنون المؤكدة في قولك : والله لأفعلن كذا .
وهذا آخر الكلام في النوع الأول .
النوع الثاني : في تحقيق
مفهوم المركب من مفردات الألفاظ ، وهو الكلام .
اعلم أن اسم الكلام قد يطلق على العبارات الدالة بالوضع تارة وعلى مدلولها القائم بالنفس تارة
>[4] على ما حققناه في كتبنا الكلامية ، والمقصود هاهنا إنما هو معنى الكلام اللساني دون النفساني .
والكلام اللساني قد يطلق تارة على ما ألف من الحروف والأصوات من غير دلالة على شيء ، ويسمى مهملا ، وإلى ما يدل ، ولهذا يقال في اللغة : هذا
[ ص: 72 ] كلام مهمل ، وهذا كلام غير مهمل ، وسواء كان إطلاق الكلام على المهمل حقيقة أو مجازا ، والغرض هاهنا إنما هو بيان الكلام الذي ليس بمهمل لغة .
وقد اختلف فيه فذهب أكثر الأصوليين إلى أن الكلمة الواحدة إذا كانت مركبة من حرفين فصاعدا كلام ، ولا جرم ، قالوا في حده : هو ما انتظم من الحروف المسموعة المميزة المتواضع على استعمالها الصادرة عن مختار واحد . وقصدوا بالقيد الأول الاحتراز عن الحرف الواحد كالزاي من زيد ، وبالقيد الثاني الاحتراز عن حروف الكتابة ، وبالقيد الثالث الاحتراز عن أصوات كثيرة من البهائم ، والمهملات من الألفاظ ، وبالقيد الرابع الاحتراز عن الاسم الواحد إذا صدرت حروفه كل حرف من شخص ، فإنه لا يسمى كلاما .
ومنهم من قال : إن الكلمة الواحدة تسمى كلاما ، لكن اختلفوا فيما اجتمع من كلمات ، وهو غير مفيد كقول القائل : زيد لا كلما ، ونحوه ، هل هو كلام ؟ فمنهم من قال : إنه كلام ; لأن آحاد كلماته وضعت للدلالة .
ومنهم من لم يسمه كلاما ، والنزاع في إطلاق اسم الكلام في هذه الصور مائل إلى الاصطلاح الخارج عن وضع اللغة باتفاق من أهل الأدب .
وأما مأخذه في اصطلاح أهل اللغة : قال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري ، وهو ناقد بصير في هذه الصناعة : ( الكلام هو المركب من كلمتين أسندت إحداهما إلى الأخرى ) . فقوله : ( المركب من كلمتين ) احتراز عن الكلمة الواحدة ، وقوله : ( أسندت إحداهما إلى الأخرى ) احتراز عن قولك : زيد عمرو ، وعن قولك : زيد علي ، أو زيد في ، أو قام في . فإن المجموع منهما مركب من كلمتين وليس بكلام ; لعدم إسناد إحداهما إلى الأخرى ، وأقل ما يكون ذلك من اسمين كقولك : زيد قائم ، أو اسم وفعل كقولك : زيد قام ، وتسمى الأولى جملة اسمية والثانية جملة فعلية ، ولا يتركب الكلام من الاسم والحرف فقط ، ولا من الأفعال وحدها ، ولا من الحروف ، ولا من الأفعال والحروف .
[ ص: 73 ] فإن قيل : ما ذكرتموه من الحد منتقض بما تركب من كلمتين أسندت إحداهما إلى الأخرى وهما مهملتان ، فإنه لا يكون كلاما ، وذلك كما لو أسندت مقلوب زيد إلى مقلوب رجل ، فقلت : ( ديز هو لجر ) .
قلنا : المراد من الكلمة التي منها التأليف اللفظة الواحدة الدالة بالوضع على معنى مفرد ، ولا وجود لذلك فيما ذكروه ، غير أن ما ذكروه من الحد يدخل فيه قول القائل : حيوان ناطق ، وإنسان عالم ، وغير ذلك من النسب التقييدية ، فإنه لا يعد كلاما مفيدا وإن أسند فيه إحدى الكلمتين إلى الأخرى ، والواجب أن يقال : الكلام ما تألف من كلمتين تأليفا يحسن السكوت عليه .