وأما السنة فهو أن النبي عليه السلام أقر
معاذا لما سأله عن الأدلة المعمول بها على إهماله لذكر الإجماع ، ولو كان
الإجماع دليلا لما ساغ ذلك مع الحاجة إليه .
وأيضا فإنه قد ورد عن النبي عليه السلام ما يدل على جواز خلو العصر عمن تقوم الحجة بقوله عليه السلام : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10355127بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ " .
[ ص: 203 ] وأيضا قوله : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10355128لا ترجعوا بعدي كفارا " نهى الكل عن الكفر ، وهو دليل جواز وقوعه منهم .
وقوله : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10355129إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ولكن بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا " ، وقوله : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10355130تعلموا الفرائض وعلموها الناس فإنها أول ما ينسى " ، وقوله عليه السلام : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10355131لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة " ، وقوله : "
خير القرون القرن الذي أنا فيه ثم الذي يليه ، ثم الذي يليه ، ثم تبقى حثالة كحثالة التمر لا يعبأ الله بهم " .
وأما المعقول فما ذكرناه في المسألتين الأوليين .
وأيضا فإن أمة
محمد أمة من الأمم فلا يكون إجماعهم حجة كغيرهم من الأمم ، وأيضا فإن الأحكام الشرعية لا يصح إثباتها إلا بدليل ، فلا يكون إجماع الأمة دليلا عليها ، كالتوحيد وسائر المسائل العقلية .
والجواب : قولهم لا نسلم أن ( من ) للعموم سيأتي بيان ذلك في مسائل العموم .
قولهم : إن التوعد إنما وقع على الجمع بين المشاقة واتباع غير سبيل المؤمنين ، فقد أجاب عنه بعض أصحابنا بأن التوعد على اتباع غير سبيل المؤمنين إن لم يكن مشروطا بمشاقة الرسول ، فهو المطلوب وإن كان مشروطا به ، فيكون اتباع غير سبيل المؤمنين غير متوعد عليه عند عدم المشاقة مطلقا ، وذلك باطل ؛ لأن مخالفة الإجماع وإن لم تكن خطأ لكن لا يلزم أن تكون صوابا مطلقا ، وما لا يكون صوابا مطلقا لا يكون جائزا مطلقا وليس بحق ; لأنه إذا سلم أن مخالفة الإجماع عند عدم المشاقة ليست خطأ .
فقوله : لا يلزم أن تكون صوابا مطلقا ، قلنا : إن لم تكن صوابا فإما أن يكون عدم الصواب خطأ أو لا يكون خطأ ، فإن كان الأول فقد ناقض ، وإن كان الثاني فما لا يكون خطأ لا يلزم التوعد عليه .
وقال
أبو الحسين البصري : هذا يقتضي أن من شاق الرسول يجب عليه اتباع سبيل المؤمنين مع مشاقته للرسول ، ومشاقة الرسول ليست معصية فقط وإنما هي
[ ص: 204 ] معصية على سبيل الرد عليه ; لأن من صدق النبي عليه السلام وفعل بعض المعاصي لا يقال إنه مشاق للرسول .
ومن كذب النبي عليه السلام لا يصح أن يعلم صحة الإجماع بالسمع ، ومن لا يصح عليه ذلك لا يصح أن يكون مأمورا باتباعه في تلك الحال ، وهو غير سديد .
فإن لقائل أن يقول ، وإن سلمنا أن المفهوم من المشاقة للنبي تكذيبه ، وأن من كذب النبي لا يعلم بالسمع صحة الإجماع ، ولكن القول بأنه لا يكون مأمورا باتباع الإجماع مبني على أن الكفار غير مخاطبين بفروع الإسلام ، وهو باطل بما سبق تقريره .
وقيل في جوابه أيضا إن الوعيد إذا علق على أمرين اقتضى ذلك التوعد بكل واحد من الأمرين جملة وإفرادا ، ويدل عليه قوله تعالى (
والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما ) فإنه يقتضي لحوق المأثم بكل واحد من هذه الأمور جملة ، وبكل واحد على انفراده .
ولقائل أن يقول : لا نسلم ثبوت الإثم في كل واحد من هذه الأمور على انفراده بهذه الآية ، وإنما كان ذلك مستفادا من الأدلة الخاصة الدالة على لزوم المأثم بكل واحد من هذه الأمور بخصوصه .
ولهذا فإنه لما لم يدل الدليل الخاص على مضاعفة العذاب بكل واحد من هذه الأمور لم تكن الآية مقتضية لتضاعف العذاب على كل واحد بتقدير الانفراد إجماعا ، ولو كانت مقتضية لذلك لكن نفي المتضاعف بقوله : (
يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا ) على خلاف الدليل .
ولهذا فإنه لو قال لزوجته : " إن كلمت زيدا وعمر أو إن كلمت زيدا ، ودخلت الدار فأنت طالق " فإنه لا يقع الطلاق بوجود أحد الأمرين ولولا أن الحكم المعلق على أمرين على العدم عند عدم أحدهما لكان انتفاء الحكم في هذه الصورة على خلاف الدليل وهو ممتنع ، والأقرب في ذلك أن يقال : لا خلاف في التوعد على اتباع غير سبيل المؤمنين
[ ص: 205 ] عند المشاقة ، وعند ذلك إما أن يكون لمفسدة متعلقة
>[1] أو لا لمفسدة .
لا جائز أن يقال بالثاني : فإن ما لا مفسدة فيه لا توعد عليه من غير خلاف ، وإن كان الأول فالمفسدة في اتباع غير سبيل المؤمنين إما أن تكون من جهة مشاقة الرسول أو لا من جهة مشاقته .
فإن كان الأول فذكر المشاقة كاف في التوعد كما قيل ، ولا حاجة إلى قوله : " (
ويتبع غير سبيل المؤمنين ) " ، وإن كان الثاني لزم التوعد لتحقق المفسدة سواء وجدت المشاقة أو لم توجد
>[2] .
قولهم إن ( غير ) مترددة بين أن تكون بمعنى إلا أو بمعنى الصفة ، قلنا : لا يمكن أن تكون ( غير ) هاهنا صفة ; لأنه يلزم من ذلك تحريم متابعة سبيل غير المؤمنين .
ويلزم من ذلك أن الأمة إذا أجمعت على إباحة فعل من الأفعال أن يحرم على المكلف أن يقول بحظره أو وجوبه ، والمخالف لا يقول بذلك ، وبتقدير أن يكون المراد منه تحريم اتباع سبيل غير المؤمنين ، فذلك يعم تحريم كل سبيل هو غير سبيل المؤمنين ; لأنه سبيل غير المؤمنين .
ولهذا فإن من اختار لنفسه حالة ، وتمسك بها وكان معروفا بها يقال إنها سبيله ، سواء تعددت الأحوال أو اتحدت .
[ ص: 206 ] وإذا قيل فلان سلك سبيل التجار فهم منه أنه يفعل أفعالهم ويتزيا بزيهم ، ويتخلق بأخلاقهم ، ويجري على عاداتهم .
وعلى هذا فيمتنع تخصيص السبيل المتوعد على اتباعه إذا كان غير سبيل المؤمنين بشيء معين من كفر أو غيره بل يعم ذلك ما كان مخالفا لطريق الأمة وسبيلهم .
كيف وإنا لو لم نعتقد ذلك لزم منه أن يكون لفظ ( السبيل ) مبهما وهو خلاف الأصل على ما سبق .
قولهم : إنه إنما يدل على عدم التوعد على متابعة سبيل المؤمنين بمفهومه ، قلنا : إذا سلم أنه يحرم اتباع كل سبيل سوى سبيل المؤمنين فلا نريد بكون الإجماع حجة سوى هذا .