قولهم :
المراد من ( سبيل المؤمنين ) كل من آمن به إلى يوم القيامة لا يصح لوجهين :
الأول : أن الأصل تنزيل اللفظ على حقيقته ، ولفظ ( المؤمنين ) حقيقة يكون لمن هو متصف بالإيمان ، والاتصاف بالإيمان مشروط بالوجود والحياة ، ومن لا حياة له ممن مات أو لم يوجد بعد لا يكون مؤمنا حقيقة ، فلفظ ( المؤمنين ) حقيقة إنما يصدق على أهل كل عصر دون من تقدم أو تأخر .
وهذا وإن منع من الاحتجاج بإجماع أهل العصر على من بعدهم فلا يمنع من الاحتجاج به على من في عصرهم وهو خلاف مذهب الخصوم
>[1] .
الثاني أن المقصود من الآية إنما هو الزجر عن مخالفة المؤمنين والحث على متابعتهم ، وذلك غير متصور عند حمل المؤمنين على كل من آمن إلى يوم القيامة إذ لا زجر ، ولا حث في يوم القيامة .
قولهم : الآية وإن دلت على وجوب اتباع سبيل المؤمنين في أي عصر كان غير أنها عامة في العالم ، والجاهل غير مراد بالاتفاق ، ولا
>[2] نسلم ذلك
[ ص: 207 ] على ما يأتي
>[3] وإن سلمنا ذلك ، غير أن الآية حجة في اتباع جملة المؤمنين إلا ما خصه الدليل فتبقى الآية حجة في الباقي .
قولهم : لفظ ( السبيل ) مفرد لا عموم فيه ، عنه جوابان :
الأول : أنه يجب اعتقاد عمومه لما سبق تقريره
>[4] .
الثاني : أنه إما أن يكون عاما بلفظه ، أو لا يكون عاما بلفظه .
فإن كان الأول فهو المطلوب ، وإن كان الثاني فهو إن لم يكن عاما بلفظه فهو عام بمعناه وإيمائه ذلك ؛ لأن اتباع سبيل المؤمنين أي سبيل كان مناسب لكونه مصلحيا ، وقد رتب الحكم على وفقه في كلام الشارع ، فكان علة لوجوب الاتباع مهما تحقق .
قولهم : يلزم من ذلك وجوب متابعة أهل الإجماع فيما فعلوه وحكموا بكونه مباحا ، وهو تناقض .
قلنا : الآية وإن دلت على وجوب اتباع المؤمنين في كل سبيل لهم ، ففعلهم للمباح سبيل ، وحكمهم بجواز الترك سبيل .
ولا يلزم من مخالفة الآية في إيجاب الفعل اتباعا لفعلهم له مخالفتها في اتباعهم في اعتقاد جواز تركه
>[5] .
قولهم : يلزم من ذلك وجوب متابعة أهل الإجماع في جواز الاجتهاد وتحريمه
>[6] ، قلنا : سنبين أنه مهما انعقد إجماع الأمة على حكم أنه يستحيل انعقاد إجماعهم على مخالفته .
قولهم : يحتمل أنه أراد متابعتهم في متابعتهم للنبي عليه السلام وترك مشاقته أو اتباعهم في الإيمان أو في الاجتهاد ،
[ ص: 208 ] قلنا : اللفظ يعم كل سبيل على ما قررناه ، وما ذكروه تخصيص لعموم الاتباع من غير دليل فلا يقبل .
قولهم : إنه مشروط بسابقة تبين الهدى إلى آخره ، فجوابه من ثلاثة أوجه :
الأول : أن تبين الهدى إنما هو مشروط في الوعيد على المشاقة لا في الوعيد على اتباع غير سبيل المؤمنين ، وذلك لأن المشاقة لا تكون إلا بعد تبين الهدى ومعرفته بدليله ومن لم يعرف ذلك لا يوصف بالمشاقة .
الثاني : أن تبين الأحكام الفروعية ليس شرطا في مشاقة الرسول بدليل أن من تبين صدق النبي ، وحاد عنه ورد عليه ، فإنه يوصف بالمشاقة ، وإن كان جاهلا بالفروع غير متبين لها .
وإذا لم تكن معرفة أحكام الفروع شرطا في المشاقة فلا تكون مشترطة في لحوق الوعيد باتباع غير سبيل المؤمنين فيها .
الثالث : هو أن الآية إنما خرجت مخرج التعظيم والتبجيل للمؤمنين بإلحاق الذم باتباع غير سبيلهم .
فلو كان ذلك مشروطا بتبين كونه هدى ، ولم يكن اتباعهم في سبيلهم لأجل أنه سبيل لهم بل لمشاركتهم فيما ذهبوا إليه لتبين كونه هدى ، لبطلت فائدة تعظيم الأمة الإسلامية وتميزهم بذلك .
فإن كل من ظهر الهدى في قوله واعتقاده ، فالوعيد حاصل بمخالفته وإن لم يكن من المسلمين .
وذلك كالوعيد على عدم مشاركة
اليهود فيما ظهر كون معتقدهم فيه هدى كإثبات الصانع ، واعتقاد كون
موسى رسولا كريما .
قولهم : المراد من ( المؤمنين ) الأئمة المعصومون أو من كان فيهم الإمام المعصوم عنه جوابان :
الأول : أنه مبني على وجود الإمام المعصوم وهو باطل بما حققناه في علم الكلام .
الثاني : أن الآية عامة فتخصيصها بالأئمة وبالمؤمنين
>[7] الذين فيهم الإمام المعصوم من غير دليل غير مقبول .
[ ص: 209 ] كيف وأن الآية دالة على الوعيد باتباع غير سبيل المؤمنين ، وعندهم التوعد إنما هو بسبب اتباع غير سبيل الإمام وحده دون غيره ، وهو خلاف الظاهر .
قولهم : سلمنا وجوب اتباع سبيل المؤمنين لكن إذا علم أنهم مؤمنون قلنا : المقصود من الآية إنما هو الحث على متابعة سبيل المؤمنين والزجر عن مخالفته فإن كان سبيلهم معلوما فلا إشكال ، وإن لم يكن معلوما فالتكليف باتباع ما لا يكون معلوما إما أن لا يكتفى فيه بالظن أو يكتفى فيه بالظن .
فإن كان الأول فهو تكليف بما لا يطاق وهو خلاف الأصل ، وإن كان الثاني فهو المطلوب .
وأما ما ذكروه من المعارضة بالآية الأولى ، فليس في بيان كون الإجماع حجة متبعة بالآية التي ذكرها
>[8] ما ينافي كون الكتاب تبيانا لكل شيء وأصلا له ،
>[9] وأما الآية الثانية فهي دليل عليهم ; لأنها دليل على وجوب الرد إلى الله والرسول في كل متنازع فيه ، وكون الإجماع حجة متبعة مما وقع النزاع فيه ، وقد رددناه إلى الله تعالى حيث أثبتناه بالقرآن ، وهم مخالفون في ذلك
>[10] .
وأما الآية الثالثة والرابعة فلا نسلم أن النهي فيهما راجع إلى اجتماع الأمة على ما نهوا عنه بل هو راجع إلى كل واحد على انفراده ، ولا يلزم من جواز المعصية على كل واحد جوازها على الجملة .
سلمنا أن النهي لجملة الأمة عن الاجتماع على المعصية ، ولكن غاية ذلك جواز وقوعها منهم عقلا ، ولا يلزم من الجواز الوقوع .
ولهذا فإن النبي عليه السلام قد نهي عن أن يكون من الجاهلين بقوله تعالى : (
فلا تكونن من الجاهلين ) ، وقال تعالى لنبيه : (
لئن أشركت ليحبطن عملك ) إذ ورد ذلك في معرض النهي مع العلم بكونه معصوما من ذلك .
[ ص: 210 ] وأيضا فإنا نعلم أن كل أحد منهي عن الزنى وشرب الخمر وقتل النفس بغير حق ، إلى غير ذلك من المعاصي .
ومع ذلك فإن من مات ولم يصدر عنه بعض المعاصي نعلم أن الله قد علم منه أنه لا يأتي المعصية ، فكان معصوما عنها ضرورة تعلق علم الله بأنه لا يأتي بها ومع ذلك فهو منهي عنها .
وأما خبر
معاذ فإنما لم يذكر فيه الإجماع ; لأنه ليس بحجة في زمن النبي عليه السلام ، فلم يكن مؤخرا لبيانه مع الحاجة إليه .