[ ص: 243 ] المسألة العاشرة
اتفق الأكثرون على أن
إجماع أهل المدينة وحدهم لا يكون حجة على من خالفهم في حالة انعقاد إجماعهم خلافا
لمالك ، فإنه قال : يكون حجة ، ومن أصحابه من قال إنما أراد بذلك ترجيح روايتهم على رواية غيرهم ، ومنهم من قال : أراد به أن يكون إجماعهم أولى ، ولا تمتنع مخالفته .
ومنهم من قال : أراد بذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .
والمختار مذهب الأكثرين ، وذلك أن الأدلة الدالة على كون الإجماع حجة متناولة لأهل
المدينة والخارج عن أهلها وبدونه لا يكونون كل الأمة ولا كل المؤمنين ، فلا يكون إجماعهم حجة على ما عرف في المسائل المتقدمة .
احتج من نصر مذهب
مالك بالنص والمعقول ، أما النص فقوله عليه السلام : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10355159إن المدينة طيبة تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد " والخطأ من الخبث فكان منفيا عنها .
وقال عليه السلام : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10355160إن الإسلام ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها " ، وقال عليه السلام : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10355161لا يكايد أحد أهل المدينة إلا انماع كما ينماع الملح في الماء " .
وأما المعقول فمن ثلاثة أوجه :
الأول : هو أن
المدينة دار هجرة النبي عليه السلام ، وموضع قبره
>[1] ، ومهبط الوحي ومستقر الإسلام ومجمع الصحابة ، فلا يجوز أن يخرج الحق عن قول أهلها .
الثاني : أن أهل
المدينة شاهدوا التنزيل ، وسمعوا التأويل وكانوا أعرف بأحوال الرسول من غيرهم ، فوجب أن لا يخرج الحق عنهم .
الثالث : أن رواية أهل
المدينة مقدمة على رواية غيرهم ، فكان إجماعهم حجة على غيرهم .
والجواب عن النص الأول أنه وإن دل على خلوص
المدينة عن الخبث ، فليس فيه ما يدل على أن من كان خارجا عنها لا يكون خالصا عن الخبث ، ولا على كون إجماع أهل
المدينة دونه حجة ، وتخصيصه
للمدينة بالذكر إنما كان إظهارا لشرفها وإبانة لخطرها وتمييزا لها عن غيرها لما اشتملت عليه المذكورة في الوجه الأول من المعقول ، وهو الجواب عن باقي النصوص .
[ ص: 244 ] وعن الوجه الأول من المعقول أن غايته اشتمال
المدينة على صفات موجبة لفضلها وليس في ذلك ما يدل على انتفاء الفضيلة عن غيرها ولا على الاحتجاج بإجماع أهلها .
ولهذا فإن
مكة أيضا مشتملة على أمور موجبة لفضلها
كالبيت المحترم ،
والمقام وزمزم ،
والحجر المستلم ،
والصفا والمروة ومواضع المناسك ، وهي مولد النبي عليه السلام ومبعثه ومولد
إسماعيل >[2] ومنزل
إبراهيم ، ولم يدل ذلك على الاحتجاج بإجماع أهلها على مخالفيهم إذ لا قائل به ، وإنما الاعتبار بعلم العلماء واجتهاد المجتهدين ولا أثر للبقاع في ذلك .
وعن الوجه الثاني أن ذلك لا يدل على انحصار أهل العلم فيها والمعتبرين من أهل الحل والعقد ومن تقوم الحجة بقولهم ، فإنهم كانوا منتشرين في البلاد متفرقين في الأمصار وكلهم فيما يرجع إلى النظر والاعتبار سواء ، ولهذا قال عليه السلام : "
أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم >[3] " ولم يخصص ذلك بموضع دون موضع لعدم تأثير المواضع في ذلك .
وعن الوجه الثالث أنه تمثيل من غير دليل موجب للجمع بين الرواية والدراية .
كيف وإن الفرق حاصل ، وذلك من جهة الإجمال والتفصيل .
وأما الإجمال : فهو أن الرواية يرجح فيها بكثرة الرواة حتى إنه يجب على كل مجتهد الأخذ بقول الأكثر بعد التساوي في جميع الصفات المعتبرة في قبول الرواية ، ولا كذلك في الاجتهاد فإنه لا يجب على أحد من المجتهدين الأخذ بقول الأكثر من المجتهدين ولا بقول الواحد أيضا .
وأما من جهة التفصيل : فهو أن الرواية مستندها السماع ووقوع الحوادث المروية في زمن النبي عليه السلام وبحضرته .
ولما كان أهل
المدينة أعرف بذلك وأقرب إلى معرفة المروي كانت روايتهم أرجح .
وأما الاجتهاد : فإن طريقه النظر والبحث بالقلب والاستدلال على الحكم ، وذلك مما لا يختلف بالقرب والبعد ، ولا يختلف باختلاف الأماكن .
وعلى ما ذكرناه فلا يكون إجماع أهل
الحرمين -
مكة والمدينة والمصرين الكوفة والبصرة - حجة على مخالفيهم وإن خالف فيه قوم ، لما ذكرناه من الدليل .