112 - فصل
[ أحكام
الوصية للكفار ]
وقد قال
أحمد في رواية حرب ، وقد سأله : الرجل يوصي لقرابته وله قرابة مشركون هل يعطون شيئا ؟ ، قال : لا ، إلا أن يسميهم .
[ ص: 607 ] وقال
أبو طالب : سألت
أبا عبد الله عن الرجل يوصي لقرابته وفيهم يهودي أو نصراني ومسلمون ؟ قال : سماهم ؟ قلت : لا ، قال : فلا يعطى اليهودي والنصراني ، يعطى المسلمون ، قلت : فإن سمى اليهودي والنصراني ؟ قال : إذا سماهم نعم .
وقد استشكل هذا من لم يدرك دقة فقه
أبي عبد الله ، فقال بعض الأصحاب : كأنه رأى أن وصيته لأقاربه ، وصلته لهم قرينة تدل على أنه أراد أهل الإسلام منهم ، والكفار وإن دخلوا في القرابة فيجوز تخصيصهم بقرينة تخرجهم ، فإذا سماهم فقد نص عليهم ، فيستحقون ، وقد تضمن جواب
أحمد أمورا ثلاثة :
أحدها : صحة
الوصية للذمي المعين ، وكذلك يصح الوقف عليه ، وفعلت
nindex.php?page=showalam&ids=199صفية بنت حيي أم المؤمنين هذا وهذا .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=16000سعيد بن منصور : حدثنا
سفيان عن
أيوب عن
عكرمة أن
nindex.php?page=showalam&ids=199صفية بنت حيي باعت حجرتها من
معاوية بمائة ألف ، وكان لها أخ يهودي فعرضت عليه أن يسلم فأبى ، فأوصت له بثلث المائة .
[ ص: 608 ] [ ص: 609 ] وقال الشيخ في " المغني " : " وروي أن
nindex.php?page=showalam&ids=199صفية بنت حيي وقفت على أخ لها يهودي " .
الأمر الثاني : أن الوصية لا تصح للكفار ، وإن صحت للمعين الكافر ، فالفرق بين أن يكون الكفر جهة أو تكون الجهة غيره ، والكفر ليس بمانع كما أوصت
صفية لأخيها وهو يهودي ، فلو جعل الكفر جهة لم تصح الوصية اتفاقا ، كما لو قال : أوصيت بثلثي لمن يكفر بالله ورسوله ويعبد الصليب ويكذب
محمدا - صلى الله عليه وسلم - ، بخلاف ما لو قال :
[ ص: 610 ] أوصيت به لفلان وهو كذلك فإن الوصية لا تصح على جهة معصية وفعل محرم ، مسلما كان الموصي أو ذميا ، فلو
وصى ببناء كنيسة أو بيت نار أو عمارتهما أو الإنفاق عليهما كان باطلا .
قال في " المغني " : وبهذا قال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي nindex.php?page=showalam&ids=11956وأبو ثور .
وقال أصحاب الرأي : يصح وأجاز
أبو حنيفة الوصية بأرض تبنى كنيسة وخالفه صاحباه ، وأجاز أصحاب الرأي أن
يوصي بشرب خمر أو خنازير ويتصدق به على أهل الذمة .
قال : وهذه وصايا باطلة وأفعال محرمة ; لأنها معصية فلم تصح الوصية بها كما لو وصى بعبده أو أمته للفجور .
قال : وذكر القاضي أنه لو وصى بحصر للبيع أو قناديل وما شاكل ذلك ، ولم يقصد إعظامها بذلك صحت الوصية ; لأن الوصية لأهل الذمة فإن النفع يعود إليهم والوصية لهم صحيحة .
[ ص: 611 ] قال : والصحيح أن هذا مما لا تصح الوصية به ; لأن ذلك إنما هو إعانة لهم على معصيتهم وتعظيم لكنائسهم .
قال : هذا ذكره القاضي في " المجرد " وهو من أوائل كتبه ، وقد رجع عن كثير منه ، وهذا مخالف لنص
أحمد وقواعده وأصوله ، فإنه قد صرح ببطلان الوقف على البيعة وعود الوقف ملكا للورثة ، وقد منع
أحمد المسلم من كراء منزله من الكافر ، فكيف يجوز الوصية بما يزين به الكنيسة وعملها ؟
وكذلك من ذكر جواز مثل هذه الوصية من أصحاب
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي فقد خالف نصوصه وأصوله ، فإنه قال في ( كتاب الجزية ) من " الأم " : لو
أوصى - يعني الذمي - بثلث ماله أو بشيء منه يبنى به كنيسة لصلاة النصارى ، أو يستأجر به خدم الكنيسة ، أو يعمر به ، أو ما في هذا المعنى ، كانت الوصية باطلة ولو أوصى أن يبنى بها كنيسة ينزلها مارة الطريق ، أو وقفها على قوم يسكنونها جازت الوصية ، وليس في بنيان الكنيسة معصية إلا أن تتخذ لمصلى النصارى الذين اجتماعهم فيها على الشرك .
قال : وأكره للمسلم أن يعمل بناء أو نجارة أو غير ذلك في كنائسهم التي لصلاتهم ، هذا لفظه .
[ ص: 612 ] قال في " المغني " : والوقف على قناديل البيعة وفرشها ومن يخدمها ويعمرها كالوقف عليها ; لأنه يراد لتعظيمها ، وسواء كان الواقف مسلما أو ذميا .
قال
أحمد في
نصارى وقفوا على البيعة ضياعا كثيرة ، وماتوا ولهم أبناء نصارى فأسلموا والضياع بيد النصارى : فلهم أخذها وللمسلمين عونهم يستخرجونها من أيديهم .
قال : وهذا مذهب
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ولا نعلم فيه خلافا .
الأمر الثالث الذي تضمنه جوابه : جواز التخصيص بقصد المتكلم وبالقرائن ، وهذا هو الواجب في كلام الواقفين والموصين والمقرين كما هو أصله في أيمان الحالفين .
والواجب طرد هذا الأصل في كلام للمكلف يترتب عليه أمر شرعي ، فإن الكلام إنما يترتب عليه موجبه لدلالته على قصد صاحبه ، فإذا ظهر قصده لم يجز أن يعدل عنه إلى عموم كلامه وإطلاقه ، فإن ذلك غلط وتغليط ، وجميع الأمم على اختلاف لغاتها تراعي مقاصد المتكلمين وإراداتهم وقرائن كلامهم ، ولو سئل أحدهم عن جاريته وقيل له : إنها فاجرة ، فقال : كلا ، بل هي عفيفة حرة لم يشكوا أنه لم يرد عتقها ولا خطر بباله ، فإلزامه بعتقها بمجرد ذلك خطأ ، واللفظ إنما يكون صريحا إذا تجرد عن القرائن الصارفة له عن موضوعه عند الإطلاق ، ولهذا لو وصل
[ ص: 613 ] قوله ( أنت طالق ) بقوله ( من وثاق ) لم يكن صريحا ، وكذا لو دعي إلى غداء فقال : والله لا أتغدى ، لم يشك هو ولا عاقل أنه لم يرد ترك الغداء أبدا إلى آخر العمر ، فإلزامه بما لم يرده قطعا بناء على إطلاق لفظ لم يرد إطلاقه وتعميم ما لم يرد عمومه إلزام بما لم يلزمه ، ولا ألزمه الله ورسوله به ، وبالله التوفيق .