صفحة جزء
الكلام على قوله تعالى :

فاعتبروا يا أولي الأبصار

الاعتبار : النظر في الأمور ليعرف بها شيء آخر من غير جنسها . والأبصار : العقول . والمعنى : تدبروا .

إخواني : الدنيا دار عبرة ، ما وقعت فيها حبره إلا ورد فتها عبرة ، أين من عاشرناه كثيرا وألفنا ، أين من ملنا إليه بالوداد وانعطفنا ، أين من ذكرناه بالمحاسن ووصفنا ، ما نعرفهم لو عنهم كشفنا ، ما ينطقون لو سألناهم وألحفنا ، وستصير كما صاروا فليتنا أنصفنا ، كم أغمضنا من أحبابنا على كرههم جفنا ، كم ذكرتنا مصارع منفنى من يفنى ، كم عزيز أحببنا دفناه وانصرفنا ، كم مؤانس أضجعناه في اللحد وما وقفنا ، كم كريم علينا إذا جزنا عليه انحرفنا ، ما لنا نتحقق الحق فإذا أيقنا صدفنا ، أما ضر أهله التسويف وها نحن قد سوفنا ، أما التراب مصيرنا فلماذا منه أنفنا ، إلام تغرنا السلامة وكأن قد تلفنا .

أين حبيبنا الذي كان وانتقل ، أما غمسه التلف في بحره ومقل ، أين الكثير المال الطويل الأمل ، أما خلا في لحده وحده بالعمل ، أين من جر ذيل الخيلاء غافلا ورفل ، أما [ ص: 224 ] سافر عنا وإلى الآن ما قفل أين من تنعم في قصره وفي قبره قد نزل ، فكأنه في الدار ما كان وفي اللحد لم يزل ، أين الجبابرة الأكاسرة العتاة الأول ، ملك أموالهم سواهم والدنيا دول .

خلا والله منهم النادي الرحيب ، ولم ينفعهم طول البكاء والنحيب ، وعاينوا من هول المطلع كل عجيب ، وسئل عاصيهم فلم يدر كيف يجيب .

مضى والله الكل على منهاج ، وساروا بين غوارب وأحداج ، ورحلوا إلى البلى أفواجا بعد أفواج . ولقوا لغب الطريق على تعب الإدلاج ، وتوسطوا بحر الجزاء المدلهم العجاج ، وظنوا سلامتهم فهاجت أمواج بعد أمواج ، ونشرت صحائفهم فإذا بها كالليل الداج ، وباشر واخشن التراب بعد لين الديباج ، وتعوضوا لحدا غامرا عن عامر الأبراج ، وحلوا إذ خلوا فيه حلية المدر بعد التاج ، فمحا محاسنهم بعد بهاء الإبهاج ، وسئلوا عما ثم فتمتم اللسان اللجلاج ، وعادت نساؤهم أيامى بعد الأزواج :


إني سألت التراب ما فعلت بعد وجوه فيك منعفره     فأجابني صيرت ريحهم
يؤذيك بعد روائح عطره     وأكلت أجسادا منعمة
كان النعيم يهزها نضره     لم يبق غير جماجم عريت
بيض تلوح وأعظم نخره

تذكر يا من جنى ركوب الجنازة ، وتصور يا من ما وفى طول المفازة ، ودع الدنيا مودعا للحلاوة والمزازة ، وارقم من قلبك ذكر الموت على جزازة ، وخلص نفسك من غل الغل وحز الحزازة ، وذكرها يوم تمسي في التراب منحازة .


سل بغمدان أين ساكنه     سيف وقل لنعمان أين السدير
أيها الظاعنون لا وال للعيـ     ـسرواح عليكم وبكور
قد رأينا دياركم وعليها     أثر من عفائكم مهجور
وسألنا أطلالها فأجابت     ومن الصمت واعظ ونذير
بان ذل الأسى عليها فللـ     ـغيثبكاء وللنسيم زفير
ذكرتنا عهودكم بعدما طا     لتليال من بعدها وشهور
عجبا كيف لم نمت في معانـ     ـيها أسى ما القلوب إلا صخور
يا ديار الأحباب غيرك الدهـ     ـر وكان بعد الأمور أمور

أخبرنا سعيد بن أحمد بن البناء ، أنبأنا عاصم بن الحسن ، أنبأنا علي بن محمد المعدل ، أنبأنا أبو علي البرذعي ، حدثنا أبو بكر القرشي ، حدثني محمد بن الحسين ، قال [ ص: 225 ] حدثني الصلت بن حكيم ، قال حدثني محبوب العابد ، قال : مررت بدار من دور الكوفة فسمعت جارية تغني من داخل الدار :


ألا يا دار لا يدخلك حزن     ولا يغدر بصاحبك الزمان

قال : ثم مررت بالدار فإذا الباب مسدود وقد علته وحشة ، فقلت ما شأنهم ؟ قالوا : مات سيدهم ، مات رب الدار ، فقلت إني سمعت من هاهنا صوت جارية تقول :

ألا يا دار لا يدخلك حزن

فقالت امرأة من الدار وبكت : يا عبد الله إن الله يغير ولا يتغير والموت غاية كل مخلوق . فرجعت من عندهم باكيا حزينا .

قال القرشي : وحدثنا أبو سعيد المدائني قال : حدثنا أحمد بن محمد المهدي ، قال حدثني رجل من عبد قيس ، قال : دخلت ابنة النعمان بن المنذر على معاوية فقال لها : أخبريني عن حالكم كيف كان ؟ قالت : أطيل أم أقصر . قال : لا بل أقصري . قالت : أمسينا مساء وليس في العرب أحد إلا وهو يرغب إلينا ويرهب منا ، فأصبحنا صباحا وليس في العرب أحد إلا ونحن نرغب إليه ونرهب منه . ثم قالت :


بينا نسوس الناس والأمر أمرنا     إذا نحن فيهم سوقة ليس ننصف
فأف لدنيا لا يدوم نعيمها     نقلب تارات بنا وتصرف

قال القرشي : وحدثني محمد بن الحسين ، قال حدثني داود بن المحبر ، قال حدثنا كثير بن سعيد السلمي ، عن أبيه قال : أعرس رجل من الحي على ابنة عمه فاتخذوا لذلك لهوا ، وكانت منازلهم إلى جانب المقابر ، فبينا هم في لهوهم ذلك ليلا إذ سمعوا صوتا أفزعهم فأصغوا إليه فإذا بهاتف يهتف من بين القبور :


يا أهل لذة دنيا لا تدوم لهم     إن المنايا تبيد اللهو واللعبا
كم من رأيناه مسرورا بلذته     أمسى فريدا من الأهلين مغتربا

قال : فوالله ما لبثنا بعد ذلك إلا أياما حتى مات الفتى المتزوج .

قال القرشي : وقال علي بن محمد القرشي . عن المنهال بن عبد الملك ، قال : حبس هشام بن عبد الملك عياض بن مسلم ، وكان كاتبا للوليد بن يزيد وضربه وألبسه المسوح ، فلما ثقل هشام أرسل عياض إلى الخزان : احفظوا ما في أيديكم . فمات هشام وخرج عياض ، فختم الأبواب والخزائن ومنع أن يكفن هشام من الخزائن واستعاروا له قمقما فأسخنوا فيه الماء ، فقال الناس : إن في هذا لعبرة لمن اعتبر !

قال القرشي : وقال الحسن بن عثمان : سمعت الوليد يقول عن عبد الرحمن بن يزيد [ ص: 226 ] بن جابر ، قال : كان عبد الرحمن بن يزيد بن معاوية خلا لعبد الملك بن مروان ، فلما مات عبد الملك وتصدع الناس عن قبره وقف عليه فقال له : أنت عبد الملك الذي كنت تعدني فأرجوك ، وتوعدني فأخافك ، وليس معك من ملكك غير ثوبيك ، وليس لك منه غير أربع أذرع في عرض ذراعين !

ثم انكفأ إلى أهله واجتهد في العبادة حتى صار كأنه شن ، فدخل عليه بعض أهله فعاتبه في نفسه وإضراره بها ، فقال للقائل : أسألك عن شيء تصدقني عنه ؟ قال : نعم . قال : أخبرني عن حالك التي أنت عليها أترضاها للموت ؟ قال : اللهم لا . قال : فهل عزمت على انتقال منها إلى غيرها ؟ قال : ما أنصحت رأيي في ذلك . قال : أفتأمن أن يأتيك الموت على حالك التي أنت عليها ؟ قال : اللهم لا . قال : حال ما أقام عليها عاقل . ثم انكفأ إلى مصلاه .


ورد المهلك قبلنا أمم     فلنتبعن معاشرا وردوا
حملتهم جرد مقربة     ثم انطووا بالموت وانجردوا

أخبرنا محمد بن أبي منصور ، أنبأنا المبارك بن عبد الجبار ، أنبأنا أبو الحسين محمد بن عبد الواحد ، أنبأنا محمد بن عبد الرحيم المازني ، حدثني أبو القاسم الكوكبي ، حدثنا أبو بكر الضرير ، حدثني غسان بن عمر ، عن محمد بن عبد الرحمن الهاشمي ، قال : دخلت علي أمي في يوم أضحى وعندها امرأة برزة في أثواب رثة . فقالت لي : أتعرف هذه ؟ قلت : لا . قالت : هذه عبادة أم جعفر بن يحيى بن خالد . فسلمت عليها ورحبت بها ، وقلت : يا خالة ، حدثيني ببعض أمركم . قالت : أذكر جملة فيها اعتبار وموعظة لمن فكر ، هجم علي مثل هذا العيد وعلى رأسي أربعمائة وصيفة وأنا أزعم أن ابني جعفرا عاق لي وقد دفع إلي خمسمائة دينار ، وقال أنفقي هذه في عيدكم ، وأنا الآن قد أتيتكم والذي يقنعني جلد شاتين أجعل أحدهما شعارا والآخر دثارا .

أي مطمئن لم يزعج ، أي قاطن لم يخرج ، إخواني قد عرف المنهج ، زال الشك والحق أبلج ، إخواني فرس الرحيل مسرج ، وإلى بوادي القبور المخرج ، والنعش المركوب بعد الهودج ، والعرق يكون صرفا لا يمزج ، ما هتف الموت بمقيم إلا أدلج ، ولا استدعى نطق فصيح إلا لجلج . إخواني : ما جرى على الإخوان أنموذج .


ركنوا إلى الدنيا الدنية     وتبوؤوا الرتب السنية
حتى إذا اغتروا بها     صرعتهم أيدي المنية

سلوا عن الجيران المنازل ، وقولوا لها أين النازل ، لا والله ما تجيب السائل ، بلى إن [ ص: 227 ] البلى ينطق بالبلابل . إخواني : الدنيا ظل زائل وحال حائل ، وركن مائل ورفيق خاذل ، ومسئول باخل ، وغول غائل ، وسم قاتل ، كم تعد الدنيا وتماطل كل وعودها غرور باطل . والله ما فرح بها عاقل ، مسكرها لا يمر على لقمان بل على باقل .


خليلي كم ميت قد حضرته     ولكنني لم أنتفع بحضوري
وكم من خطوب قد طوتني كثيرة     وكم من أمور قد جرت وأمور
ومن لم يزده الدهر ما عاش عبرة     فذاك الذي لا يستنير بنور

التالي السابق


الخدمات العلمية