المجلس الثامن عشر
في قصة بلعام
الحمد لله الذي إذا لطف أعان ، وإذا عطف صان ، أكرم من شاء كما شاء وأهان ، أخرج الخليل من آزر ومن نوح كنعان ، يميت ويحيي ويغني ويشقي كل يوم هو في شأن ، يزين بموهبة العلم فإذا لم يعمل به شان ، خلع خلعة العلم على بلعم فلم يصنها ومال بهواه إلى ما عنه ينهى واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان أحمده في السر والإعلان ، وأصلي على محمد الذي انشق ليلة ولادته الإيوان ، وعلى رسوله أول من جمع القرآن ، أبي بكر وعلى الفاروق الموصوف بالعدل وكذلك كان ، وعلى عثمان ، وعلى علي سيد العلماء والشجعان ، وعلى عمه التقي الحيي المستسقى به العباس فسال التهتان .
قال الله تعالى : واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها .
في المشار إليه ستة أقوال : أحدها : أنه أمية بن أبي الصلت . قاله ، عبد الله بن عمرو بن العاص وسعيد بن المسيب ، وكان قد قرأ الكتب وعلم أنه سيأتي رسول ، ورجا أن يكون هو ، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم حسده وكفر . وزيد بن أسلم ،
والثاني : أبو عامر الراهب . قال ابن عباس : الأنصار تقول : إنه أبو عامر .
والثالث : أنه كان رجل من بني إسرائيل ، أعطي ثلاث دعوات مستجابات ، وكانت له امرأة دميمة ، فقالت له : ادع الله أن يجعلني أجمل امرأة فدعا لها فرغبت عن زوجها ، فدعا عليها أن يجعلها كلبة نباحة ، فجاء بنوها وقالوا : لا صبر لنا على تعيير الناس لنا بأمنا ، فدعا أن تكون كما كانت ، فذهبت الثلاث دعوات . رواه عن عكرمة ابن عباس .
والرابع : أنه كل من انسلخ من الحق بعد أن أعطيه من اليهود والنصارى والحنفاء ، قاله عكرمة .
والخامس : أنه المنافق . قاله الحسن .
والسادس : أنه بلعام ، قاله ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وعكرمة والسدي وهو المشهور والأثبت .
وفي الآيات التي أوتيها أربعة أقوال : أحدها اسم الله الأعظم . رواه ابن أبي طلحة [ ص: 220 ] عن وبه قال ابن عباس ، ابن جرير ، والثاني : أنها كتاب من كتب الله ، روي عن والثالث : أنها حجج التوحيد وفهم أدلته . والرابع : أنها العلم بكتب الله تعالى . ابن عباس .
وكان من خبر بلعام : أن موسى عليه السلام غزا البلد الذي هو فيه وكانوا كفارا ، وكان هو مجاب الدعوة ، فأتاه قومه فقالوا : هذا موسى قد جاء يخرجنا من بلادنا ويقتلنا ويحلها بني إسرائيل ، ونحن قومك فادع الله عليهم . فقال : ويلكم نبي الله ومعه الملائكة والمؤمنون ، فكيف أدعو عليهم ؟ فقالوا : ما لنا من مترك . فلم يزالوا يرققونه ويتضرعون إليه حتى افتتن ، فركب حمارة له متوجها إلى عسكر موسى ، فما سار إلا القليل حتى ربضت دابته به فنزل عنها فقربها ، فقالت : ويحك يا بلعام أين تذهب ! ألا ترى الملائكة أمامي تردني عن وجهي هذا ، أتذهب إلى نبي الله والمؤمنين تدعو عليهم ؟ فلم ينزع عنها وضربها ، فانطلقت به حتى إذا أشرف على عسكر موسى جعل لا يدعو عليهم بشيء إلا صرف الله به لسانه إلى بني إسرائيل ، فقال له قومه : إنما تدعو علينا . فقال : هذا شيء لا أملكه . إلا أنه دعا ألا يدخل موسى المدينة فوقعوا في التيه ، فقال موسى : اللهم كما سمعت دعاءه علي فاسمع دعائي عليه فدعا ، الله أن ينزع منه الاسم الأعظم ، فنزع منه واندلع لسانه فوقع على صدره . فقال لقومه : قد ذهبت مني الآن الدنيا والآخرة ، فلم يبق إلا المكر والحيلة ، جملوا النساء وأعطوهن السلع وأرسلوهن في العسكر يبعنها ، ومروهن أن لا تمنع امرأة نفسها ممن أرادها ، فإنه إن زنى رجل منهم كفيتموهم ! ففعلوا ذلك فوقع رجل منهم على امرأة فأرسل الله تعالى الطاعون على بني إسرائيل حينئذ ، فهلك منهم سبعون ألفا في ساعة واحدة !
وروى السدي عن أشياخه أن بلعام قال لقومه : لا ترهبوا بني إسرائيل فإنكم إذا خرجتم لقتالهم دعوت عليهم . وكان رغبه فيما عندهم من الدنيا . وقال غيره : خوفه ملكهم فنحت له خشبة ليصلبه عليها ، فدعا عليهم .
وقوله : فانسلخ منها أي خرج من العلم بها فأتبعه الشيطان أي أدركه فكان من الغاوين يعني الضالين .