فالخارق ثلاثة أنواع : محمود في الدين ، ومذموم ، ومباح . فإن كان المباح فيه منفعة كان نعمة ، وإلا فهو كسائر المباحات التي لا منفعة فيها . قال
أبو علي الجوزجاني : كن طالبا للاستقامة ، لا طالبا للكرامة ، فإن نفسك متحركة في طلب الكرامة ، وربك يطلب منك الاستقامة .
قال
الشيخ السهروردي في عوارفه : وهذا أصل كبير في
[ ص: 748 ] الباب ، فإن كثيرا من المجتهدين المتعبدين سمعوا بالسلف الصالحين المتقدمين ، وما منحوا به من
الكرامات وخوارق العادات ، فنفوسهم لا تزال تتطلع إلى شيء من ذلك ، ويحبون أن يرزقوا شيئا منه ، ولعل أحدهم يبقى منكسر القلب ، متهما لنفسه في صحة عمله ، حيث لم يحصل له خارق ، ولو علموا بسر ذلك لهان عليهم الأمر ، فيعلم أن الله يفتح على بعض المجاهدين الصادقين من ذلك بابا ، والحكمة فيه أن يزداد بما يرى من خوارق العادات وآثار القدرة - يقينا ، فيقوى عزمه على الزهد في الدنيا ، والخروج عن دواعي الهوى . فسبيل الصادق مطالبة النفس بالاستقامة ، فهي كل الكرامة .
ولا ريب أن للقلوب من التأثير أعظم مما للأبدان ، لكن إن كانت صالحة كان تأثيرها صالحا ، وإن كانت فاسدة كان تأثيرها فاسدا . فالأحوال يكون تأثيرها محبوبا لله تعالى تارة ، ومكروها لله أخرى .
وقد تكلم الفقهاء في وجوب القود على من يقتل غيره في الباطن . وهؤلاء يشهدون ببواطنهم وقلوبهم الأمر الكوني ، ويعدون مجرد خرق العادة لأحدهم أنه كرامة من الله له ، ولا يعلمون أنه في الحقيقة إنما
الكرامة لزوم الاستقامة ، وأن الله تعالى لم يكرم عبدا بكرامة أعظم من موافقته فيما يحبه ويرضاه ، وهو طاعته وطاعة رسوله ، وموالاة أوليائه ، ومعاداة أعدائه . وهؤلاء هم أولياء الله الذين قال الله فيهم :
ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون [ يونس : 62 ] .
[ ص: 749 ] وأما ما يبتلي الله به عبده ، من السر بخرق العادة أو بغيرها أو بالضراء - فليس ذلك لأجل كرامة العبد على ربه ولا هوانه عليه ، بل قد سعد بها قوم إذا أطاعوه ، وشقي بها قوم إذا عصوه ، كما قال تعالى :
فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن كلا [ الفجر : 15 - 17 ] .
ولهذا كان الناس في هذه الأمور ثلاثة أقسام : قسم ترتفع درجتهم بخرق العادة ، وقسم يتعرضون بها لعذاب الله ، وقسم يكون في حقهم بمنزلة المباحات ، كما تقدم .