( ( تتمة : ) ) ألحق علماؤنا في آخر هذا الباب ذكر الملكين الموكلين بالعبد يكتبان أفعاله ، وكأنهم نظروا لمناسبة ذلك للأحكام وكونه مما يجب الإيمان به وإلا فكان الأنسب ذكر ذلك في الباب الآتي في السمعيات ; لأنه منها فلهذا قال :
( ( ووكل الله من الكرام اثنين حافظين للأنام ) ) ( ( فيكتبان كل أفعال الورى
كما أتى في النص من غير امترا ) )
( ( ووكل الله ) ) - سبحانه وتعالى - ( ( من ) )
الملائكة ( ( الكرام ) ) وصفهم بالكرم لما جاء في الكتاب والسنة كما سيأتي ، والحق أن الملائكة - عليهم السلام - ذوات قائمة بأنفسها قادرة على التشكل ؛ بالقدرة الإلهية ، كما ثبت في الأحاديث الصحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال العلامة
ابن حمدان في نهاية المبتدئين : وتغير صور الملائكة ، والجن ، والشياطين إلى الله
[ ص: 447 ] - تعالى - لا إليهم . وقد حكى غير واحد من محققي العلماء الاتفاق على أن الملائكة لا يأكلون ولا يشربون ولا ينكحون ، يسبحون الليل والنهار لا يفترون ( ( اثنين ) ) مفعول " وكل " ( ( حافظين للأنام ) ) كسحاب ، وبالمد ، والأنيم كأمير الخلق من الجن ، والإنس ، وجميع ما على وجه الأرض ، والمراد هنا الإنس ( ( فيكتبان ) ) يعني الملكين الحافظين ( ( كل أفعال الورى ) ) كفتى : الخلق ( ( كما أتى في النص ) ) القرآني كما في قوله - تعالى - :
وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون وقال - تعالى - :
عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ( ( من غير امترا ) ) أي من غير شك وهو مشتق من المماراة ، والمرية بالضم والكسر : الشك والجدل ، يقال ماراه مماراة ومراء ، وامترى فيه وتمارى شك كما في القاموس وامتراه حقه جحده . وفي نهاية
ابن الأثير في الحديث ( (
nindex.php?page=hadith&LINKID=1026274لا تماروا في القرآن فإن مراء فيه كفر ) ) قال : المراء الجدال ، والتماري والمماراة المجادلة على مذهب الشك والريبة ، ويقال للمناظرة مماراة ؛ لأن كل واحد منهما يستخرج ما عند صاحبه ويمتريه ، كما يمتري الحالب اللبن من الضرع . قال
أبو عبيد في توجيه الحديث المذكور : ليس وجه الحديث عندنا على الاختلاف في التأويل ولكنه على الاختلاف في اللفظ ، وهو أن يقرأ الرجل على حرف فيقول الرجل ليس هو كذا ولكنه على خلافه ، وكلاهما منزل مقروءة فيهما ، فإذا جحد كل منهما قراءة صاحبه لم يؤمن أن يكون ذلك يخرجه إلى الكفر لأنه نفى حرفا أنزله الله على نبيه .
والتنكير في المراء في الحديث إيذانا بأن شيئا منه كفر فضلا عما زاد عليه . وقيل إنما أراد الجدال والمراء في الآيات التي فيها ذكر القدر ونحوه من المعاني على مذاهب أهل الكلام وأصحاب الأهواء والآراء دون ما تضمنته من الأحكام ، وأبواب الحلال ، والحرام فإن ذلك قد جرى بين الصحابة فمن بعدهم من العلماء ، وذلك فيما يكون الغرض منه ، والباعث عليه ظهور الحق ليتبع دون الغلبة ، والتعجيز ، والله أعلم .
قال علماؤنا - منهم
ابن حمدان في نهاية المبتدئين :
الرقيب والعتيد ملكان موكلان بالعبد يجب أن نؤمن بهما ونصدق بأنهما يكتبان أفعاله كما قال
[ ص: 448 ] - تعالى - :
عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد وقوله :
وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون ولا يفارقان العبد بحال وقيل بل عند الخلاء ، وقال
الحسن : إن الملائكة يجتنبون الإنسان على حالين عند غائطه وعند جماعه ، ومفارقتهما للمكلف حينئذ لا تمنع من كتبهما ما يصدر منه في تلك الحال كالاعتقاد القلبي ، يجعل الله لهما أمارة على ذلك ، قال سيدنا
nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد - رضي الله عنه - : للعبد ملائكة يحفظونه بأمر الله تعالى - يشير إلى قوله تعالى - :
له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله قال
العلامة الشيخ عبد الرحمن العليمي العمري الحنبلي في تفسيره للقرآن العظيم المسمى بفتح الرحمن في تفسير القرآن : التعقيب العود بعد البدء وإنما ذكر بلفظ التأنيث ; لأن المراد الجماعات التي يعقب بعضها بعضا . وقوله :
يحفظونه من أمر الله من المضار ويراقبون أحواله من أجل أمر الله ، فإذا جاء القدر خلوا عنه . وقال
البيضاوي : يحفظونه من أمر الله من بأسه متى أذنب بالإمهال ، والاستغفار ، أو يحفظونه من المضار ، أو يراقبون أحواله من أجل أمر الله ، وقد قرئ به ، وقيل : " من " بمعنى الباء . وقال في قوله " معقبات " : التاء للمبالغة ، أو لأن
المراد بالمعقبات جماعات وقرئ " معاقيب " جمع معقب أو معقبة على تعويض الياء من أحد القافين . انتهى .
وفي صحيح
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري : معقبات ملائكة حفظة تعقب الأولى منهما الأخرى ، ومنه قيل المعقب أي عقيب في أثره . قال
أبو عبيدة : أي ملائكة تعقب بعد ملائكة ، حفظة بالليل تعقب بعد حفظة النهار ، وحفظة النهار تعقب بعد حفظة الليل . وروى
nindex.php?page=showalam&ids=16935الطبري بإسناد حسن عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله - تعالى - :
له معقبات من بين يديه ومن خلفه قال : ملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه ، فإذا جاء قدره خلوا عنه . وأخرج من طريق
nindex.php?page=showalam&ids=16405ابن أبي طلحة عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس في قوله :
من أمر الله أي بإذن الله . فالمعقبات هي من أمر الله وهي الملائكة . ومن طريق
nindex.php?page=showalam&ids=15992سعيد بن جبير عنه قال : حفظهم إياه بأمر الله . ومن طريق
nindex.php?page=showalam&ids=12354إبراهيم النخعي قال : يحفظونه من الجن . ومن طريق
nindex.php?page=showalam&ids=16850كعب الأحبار قال : لولا أن الله وكل بكم ملائكة
[ ص: 449 ] يذبون عنكم في مطعمكم ومشربكم وعوراتكم لتخطفتم . وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=14687الطبراني من طريق
كنانة العدوي أن عثمان سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن عدد الملائكة الموكلة بالآدمي فقال : لكل آدمي عشرة بالليل وعشرة بالنهار واحد عن يمينه وآخر عن شماله واثنان من بين يديه ومن خلفه ، واثنان على جنبه وآخر قابض على ناصيته فإن تواضع رفعه وإن تكبر وضعه ، واثنان على شفتيه ليس يحفظان عليه إلا الصلاة على محمد ، والعاشر يحرسه من الحية أن تدخل فاه - يعني إذا نام . قال الحافظ
ابن حجر في فتح الباري : وجاء في تأويل ذلك قول آخر رجحه
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير فأخرج بإسناد صحيح عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله - تعالى - :
له معقبات قال : ذكر ملكا من ملوك الدنيا له حرس ومن دونه حرس . ومن طريق عكرمة في قوله :
له معقبات ، قال : المواكب . وفي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1026276يتعاقبون فيكم : ملائكة بالليل وملائكة بالنهار " . وفي بعض التفاسير في قوله - تعالى - :
إن كل نفس لما عليها حافظ وكل بالمؤمن مائة وستون ملكا يذبون عنه ما لم يقدر عليه ، للبصر من ذلك سبعة أملاك يذبون عنه كما يذب عن قصعة العسل الذباب ، ولو وكل العبد إلى نفسه طرفة عين لاختطفته الشياطين ، وذكره في كنز الأسرار من حديث
أبي أمامة - رضي الله عنه - مرفوعا . قال العلامة
الشيخ مرعي في بهجته : وأما
الملائكة الكاتبون فقيل أربعة اثنان بالليل واثنان بالنهار ، وقيل خمسة واحد لا يفارق في ليل ولا نهار . انتهى ، والمشهور أنهما اثنان لكل واحد ، قال
الضحاك : مجلس الملكين تحت الشعر على الحنك . ومثله عن
الحسن . وكان
الحسن يعجبه أن ينظف عنفقته . وعنه - عليه السلام - "
مقعد ملكيك على شفتيك ، ولسانك قلمهما ، وريقك مدادهما وأنت تجري فيما لا يعنيك ولا تستحي من الله ولا منهما " . وعنه - عليه الصلاة والسلام - "
كاتب الحسنات عن يمين الرجل - يعني الشخص - وكاتب السيئات عن يساره ، وكاتب الحسنات أمير على كاتب السيئات ، فإذا عمل الشخص حسنة كتبها صاحب اليمين عشرا ، وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال : دعه سبع ساعات لعله يسبح ، أو يستغفر " . ونقل
الحافظ ابن رجب في شرح الأربعين النووية عن
شويس [ ص: 450 ] العدوي وكان من قدماء التابعين أن صاحب اليمين أمير - ، أو قال : أمين - على صاحب الشمال ، فإذا عمل ابن
آدم سيئة ، قال له صاحب اليمين : لا تعجل لعله يعمل حسنة ، فإن عمل حسنة ألقى واحدة بواحدة وكتب له تسع حسنات فيقول الشيطان يا ويله من يدرك تضعيف ابن
آدم . وقال واحد وهو المشهور : إن
أحد الملكين على عاتق الإنسان الأيمن ، وهو كاتب الحسنات ، والآخر على عاتقه الأيسر ، وإن كاتب الحسنات له إمارة على كاتب السيئات ، فلا يمكنه من كتبها إلا بعد مضي ست ساعات من غير توبة من المكلف أو استغفار ، أو فعل مكفر لها ، مع مبادرته بكتب الحسنات فورا ، والذي رواه
البغوي من حديث
أبي أمامة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "
كاتب الحسنات على يمين الرجل ، وكاتب السيئات على يسار الرجل ، وكاتب الحسنات أمير على كاتب السيئات : دعه سبع ساعات لعله يسبح لله ، أو يستغفر .