( ( ثم الصلاة والسلام سرمدا على النبي المصطفى كنز الهدى ) ) ( ( وآله وصحبه الأبرار
معادن التقوى مع الأسرار ) )
( ( ثم
الصلاة ) ) وهي من الله الرحمة ، ومن الملائكة الاستغفار ، ومن غيرهم التضرع والدعاء بخير ، هذا هو المشهور والجاري على ألسنة الجمهور ، ولم يرتض هذا الإمام المحقق
ابن القيم في كتابيه ( جلاء الإفهام ) و ( بدائع الفوائد ) وغيرهما ، ورده من وجوه :
( أحدها ) : أن الله - تعالى - غاير بينهما في قوله : (
عليهم صلوات من ربهم ورحمة ) .
( الثاني ) : أن سؤال الرحمة يشرع لكل مسلم ، والصلاة تختص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وآله ، فهي حق له ولآله ، ولهذا منع كثير من العلماء
الصلاة على معين غيره ، يعني وغير سائر الأنبياء والملائكة ، ولم يمنع أحد من الترحم على معين من المسلمين
[ ص: 47 ] ( الثالث ) : أن رحمة الله عامة ، وسعت كل شيء ، وصلاته خاصة لخواص عباده . وقولهم
الصلاة من العباد بمعنى الدعاء مشكل أيضا من وجوه :
[ ص: 48 ] ( أحدها ) : أن الدعاء يكون بالخير والشر ، والصلاة لا تكون إلا في الخير .
( الثاني ) : أن دعوت يتعدى باللام ، وصليت لا يتعدى إلا بعلى ، ودعا المعدى بعلى ليس بمعنى صلى ، وهذا يدل على أن الصلاة ليست بمعنى الدعاء .
( الثالث ) : أن فعل الدعاء يقتضي مدعوا ومدعوا له ، تقول : دعوت الله لك بخير . وفعل الصلاة لا يقتضي ذلك ، لا تقول : صليت الله عليك ولا لك ، فدل على أنه ليس بمعناه ، فأي تباين أظهر من هذا ؟ . قال : ولكن التقليد يعمي عن إدراك الحقائق ، فإياك والإخلاد إلى أرضه . قال في البدائع : ورأيت
لأبي القاسم السهيلي كلاما حسنا في اشتقاق الصلاة ، فذكر ما ملخصه : إن معنى اللفظة حيث تصرفت ترجع إلى الحنو والعطف ، إلا أن ذلك يكون محسوسا ومعقولا ، فالمحسوس منه صفات الأجسام ، والمعقول منه صفة ذي الجلال والإكرام ، وهذا المعنى كثير موجود في الصفات ، والكبير يكون صفة للمحسوسات وصفة للمعقولات ، وهو من أسماء الرب ، تعالى وتقدس عن مشابهة الأجسام ومضاهاة الأنام ، فما يضاف إليه - تعالى - من هذه المعاني معقولة غير محسوسة ، فإذا ثبت هذا ، فالصلاة كما قلنا حنو وعطف من قولك : صليت ، أي حنيت صلاك وعطفته ، فأخلق بأن تكون الرحمة كما سمى عطفا وحنوا ، تقول : اللهم اعطف علينا ، أي ارحمنا . قال الشاعر :
وما زلت في ليني له وتعطفي عليه كما تحنو على الولد الأم
وأما رحمة العباد فرقة في القلب ، إذا وجدها الراحم من نفسه انعطف على المرحوم وأثنى عليه ، ورحمة الله للعباد جود وفضل ، فإذا صلى عليه ، فقد أفضل وأنعم ، وهذه الأفعال إذا كانت من الله أو من العبد فهي متعدية بعلى مخصوصة بالخير ، لا تخرج عنه إلى غيره ، فرجعت كلها إلى معنى واحد ، إلا أنها في معنى الدعاء والرحمة ، والصلاة معقولة أي انحناء معقول غير محسوس ، ثمرته من العبد الدعاء ; لأنه لا يقدر على أكثر منه ، وثمرته من الله الإحسان والإنعام ، فلم تختلف الصلاة في معناها ، وإنما اختلفت ثمرتها الصادرة عنها . والصلاة التي هي الركوع والسجود انحناء محسوس ، فلم يختلف المعنى فيها إلا من جهة المعقول ، وليس ذلك باختلاف في الحقيقة ،
[ ص: 49 ] ولذلك تعدت كلها بعلى ، واتفقت في اللفظ المشتق من الصلاة ، ولم يجز صليت على العدو أي دعوت عليه ، فقد صار معنى الصلاة أرق وأبلغ من معنى الرحمة وإن كان راجعا إليه ، إذ ليس كل راحم ينحني على المرحوم ، وينعطف عليه من شدة الرحمة . انتهى .