[ ص: 6 ] ( الثاني )
اعلم أن
الصحابة الكرام قد تنازعوا في كثير من مسائل الأحكام ، وهم سادات المؤمنين وأكمل الأمة إيمانا بلا انفصام ، ولكن بحمد الله - تعالى - لم يتنازعوا في مسألة واحدة من
مسائل الأسماء والصفات والأفعال ، بل كلهم على إثبات ما نطق به الكتاب والسنة على كل حال ، فكلمتهم واحدة من أولهم إلى آخرهم ، لم يسوموها تأويلا ، ولم يحرفوها عن مواضعها تبديلا ، ولم يبدوا لشيء منها إبطالا ، ولا ضربوا لها مثالا ، ولم يدفعوا عن صدورها وأعجازها ، ولم يقل أحد منهم : يجب صرفها عن حقائقها ، وحملها على مجازها . بل تلقوها بالقبول والتسليم ، وقابلوها بالإيمان والتعظيم ، ولم يفعلوا كما فعل أهل الأهواء والبدع حيث جعلوا القرآن عضين ، فأقروا ببعض آيات الصفات ، وأنكروا بعضها من غير فرقان مبين ، مع أن اللازم لهم فيما أنكروه كاللازم لهم فيما أقروا به وأثبتوه ، فأهل الإيمان إذا تنازعوا في شيء من القرآن ، ردوه إلى الله ورسوله كما رتب عليه الإيمان ، فكل ما تنازع فيه المؤمنون من مسائل الدين ، دقه وجله ، جليه وخفيه ، ردوه إليهما ، فلو لم يكن في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - بيان ما تنازعوا فيه ، لم يأمر الله بالرد إليه ، إذ من الممتنع أن يأمر الله - تعالى - بالرد عند النزاع إلى من لا يوجد عنده فصل النزاع ، وقد أجمع الناس على أن الرد إلى الله هو الرد إلى كتابه ، والرد إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الرد إليه نفسه في حياته ، وإلى سنته - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته ، وقد جعل الله هذا الرد من موجبات الإيمان ولوازمه ، فإذا انتفى انتفى الإيمان ضرورة انتفاء الملزوم لانتفاء لازمه ، ولا سيما التلازم بين هذين الأمرين ، فإنه من الطرفين ، فكل منهما ينتفي بانتفاء الآخر ، وقد نهى الصديق ثم الفاروق ومن بعدهما من الصحابة عن القول بالرأي ، حتى قال
عمر - رضي الله عنه : إن أصحاب الرأي أعداء السنن ، أعيتهم الأحاديث أن يعوها ، وتفلتت منهم أن يحفظوها ، فقالوا في الدين برأيهم ، فضلوا وأضلوا . وقال - رضي الله عنه : أيها الناس ، اتهموا الرأي في الدين ، فلقد رأيتني وإني لأرد أمر رسول
[ ص: 7 ] الله - صلى الله عليه وسلم - برأيي ، فأجتهد ولا آلو ، وذلك يوم
nindex.php?page=showalam&ids=142أبي جندل - ( يعني : يوم قضية
الحديبية ) .
وأضل كل رأي وأبطله وأفسده وأعطله الرأي المتضمن لتعطيل أسماء الرب وصفاته وأفعاله بالمقاييس الباطلة التي وضعها أهل البدع والضلال من
الجهمية والمعتزلة والقدرية ومن ضاهاهم ، حيث استعملوا قياساتهم الفاسدة وآرائهم الباطلة ، وشبههم الداحضة في رد النصوص الصحيحة والآيات الصريحة ، فردوا لأجلها ألفاظ النصوص التي وجدوا السبيل إلى تكذيب رواتها وتخطئتهم ، وحرفوا المعاني التي لم يجدوا إلى رد ألفاظها سبيلا ، فقابلوا النوع الأول بالتكذيب ، والنوع الثاني بالتحريف والتأويل ، فأنكروا رؤية المؤمنين ربهم في الآخرة ، وأنكروا كلامه وتكليمه لعباده ، وأنكروا مباينته للعالم واستواءه على عرشه ، وعموم قدرته ، وحرفوا النصوص عن مواضعها ، وأخرجوها عن معانيها وحقائقها بالرأي المجرد الذي حقيقته أنه زبالة الأذهان ، ونخالة الأفكار ، وعصارة الآراء ، ووساوس الصدور ، فملئوا به الأوراق سوادا ، والقلوب شكوكا ، والعالم فسادا ، فكل من له مسكة من علم ودربة من فهم ، يعلم أن فساد العالم وخرابه إنما نشأ من تقديم الرأي على الوحي ، والهوى على النقل ، وما استحكم هذان الأصلان الفاسدان في قلب إلا استحكم هلاكه ، ولا في أمة إلا وفسد أمرها أتم فساد .
وقد قال الإمام
أحمد - رضي الله عنه : رأي فلان ورأي فلان ورأي فلان عندي سواء ، وإنما الحجة في الآثار . وروى
nindex.php?page=showalam&ids=13332ابن عبد البر بسنده ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16408عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل ، عن أبيه - رضي الله عنه :
دين النبي محمد آثار نعم المطية للفتى الأخبار لا تعد عن علم الحديث وأهله
فالرأي ليل والحديث نهار ولربما جهل الفتى طرق الهدى
والشمس طالعة لها أنوار
.
وقال بعض أهل العلم وأحسن :
العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس خلف فيه
ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين النصوص وبين رأي فقيه
[ ص: 8 ] كلا ولا رد النصوص تعمدا حذرا من التجسيم والتشبيه
حاشا النصوص من الذي رميت به من فرقة التعطيل والتمويه
.
ثم إن الرأي المذموم هو الرأي المجرد الذي لا دليل عليه من كتاب ولا سنة ولا قياس جلي ، بل هو خرص وتخمين ، فهذا الرأي الذي ورد التحذير منه والتنفير عنه ، وأما الرأي المستند إلى الاستدلال والاستنباط من النص وحده ، أو من نص آخر معه في الأحكام ، فهذا من ألطف فهم النصوص وأدقه ، وما ورد عن السلف مما يشعر بمدح الرأي وقبوله ، فالمراد به هذا ، والله أعلم .