( التنبيه الثالث ) قد أشرنا فيما تقدم أن
المعتزلة ذهبت إلى
تفضيل الملائكة على البشر حتى على الرسل والأنبياء ، واختاره من
الأشاعرة nindex.php?page=showalam&ids=12604القاضي أبو بكر الباقلاني وأبو إسحاق الإسفرائني nindex.php?page=showalam&ids=14070والحافظ أبو عبد الله الحاكم والحليمي nindex.php?page=showalam&ids=16785والفخر الرازي في المعالم دون الأربعين
وأبو شامة ، ومن نحا نحوهم واحتجوا بحجج منها قوله تعالى : (
لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ) فهذا يقتضي كون الملائكة أفضل من
المسيح ألا ترى أنه يقال : إن فلانا لا يستنكف الوزير من خدمته ولا السلطان ، ولا يقال : إنه لا يستنكف السلطان من خدمته ولا الوزير ؟ فلما ذكر
المسيح أولا والملائكة ثانيا علمنا أن الملائكة أفضل من
المسيح . والجواب عنه من وجوه : ( الأول ) أن
محمدا - صلى الله عليه وسلم - وكذا
إبراهيم الخليل أفضل من
المسيح - عليه السلام - ، فلا يلزم من كون الملائكة أفضل من
المسيح كونهم أفضل من
محمد ولا من
إبراهيم - عليهما الصلاة والسلام - . ( الثاني ) أن قوله ولا الملائكة المقربون صيغة جمع فتناول الكل ، فهذا يقتضي كون مجموع الملائكة أفضل من
المسيح ، فلم قلتم إنه يقتضي كون كل واحد من الملائكة أفضل من
المسيح ؟ ( الثالث ) أن الواو في قوله : ولا الملائكة المقربون حرف عطف ، وهو إنما يفيد الجمع المطلق لا الترتيب ، والمثال الذي ذكرتموه ليس
[ ص: 407 ] بحجة لأن الحكم الكلي لا يثبت بالمثال الجزئي ، ثم إنه معارض بنحو قولك : ما أعانني على هذا الأمر لا عمرو ولا زيد ، فهذا لا يفيد كون المتأخر في الذكر أفضل من المقدم ، ومنه قوله تعالى : (
ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت ) ولما اختلفت الأمة امتنع التعويل عليها ، ثم التحقيق في المسألة أنه قيل : إذا قيل هذا العالم لا يستنكف من خدمته الوزير ولا السلطان ، فنحن نعلم بعقولنا أن السلطان أعظم درجة من الوزير ، فعرفنا أن الغرض من ذكر الثاني هو المبالغة ، فهذه المبالغة إنما عرفناها بهذا الطريق لا بمجرد الترتيب في الذكر ، فلا يمكن أن نعرف أن المراد من قوله : ولا الملائكة المقربون بيان المبالغة إلا إذا عرفنا قبل ذلك أن الملائكة المقربين أفضل من
المسيح ، وحينئذ يتوقف صحة الدليل على صحة المطلوب . وذلك دور ( الرابع ) هب أن الآية الكريمة دالة على أن منصب الملك أعلى وأزيد من منصب
المسيح ، ولكن لا تدل على الزيادة من جميع الوجوه ، فالملك أزيد من جهة القوة والقدرة والبطش ، فإن
جبريل - عليه السلام - قلع
مدائن قوم لوط ، والبشر لا يقدرون على مثل ذلك ، فلم قلتم : إن الملك أفضل من البشر في كثرة الثواب الحاصل بسبب مزيد الخشوع والعبودية ؟ وتمام التحقيق أن الفضل المختلف فيه في هذه المسألة هو كثرة الثواب ، ثم إن كثرة الثواب لا تحصل إلا بنهاية التواضع والخضوع ، وكون العبد موصوفا بنهاية التواضع لله تعالى لا يلائم صيرورته مستنكفا من عبودية الله تعالى ، بل يناقضها وينافيها فامتنع أن يكون المراد من هذه الآية هذا المعنى ، وأما اتصاف الشخص بالقدرة الشديدة والقوة الكاملة فإنه مناسب للتمرد وترك العبودية ،
فالنصارى لما شاهدوا من
المسيح إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص أخرجوه بسبب هذا القدر من القدرة عن عبودية الله تعالى ، فقال تعالى : إن
عيسى لا يستنكف بسبب هذا القدر من القدرة عن عبوديتي ، ولا الملائكة المقربون الذين هم فوقه في القدرة والبطش والاستيلاء على عالم السماوات والأرضين ، وعلى هذا الوجه تنتظم دلالة الآية على أن الملك أفضل من البشر في الشدة والقوة والبطش ، لكنها لا تدل البتة على أن الملك أفضل من البشر في كثرة الثواب ، ويقال أيضا : إنما ادعت
النصارى إلهية
عيسى لأنه
[ ص: 408 ] وجد لا من أب ، فقيل لهم : الملك حصل ووجد لا من أب ولا من أم ، فكيف يستنكف
المسيح عن العبودية لكونه وجد من أم لا أب والملك الذي وجد لا من أب ولا من أم لا يستنكف عنها ؟ فالملائكة أعجب في هذا من
المسيح في هذا الباب مع أنهم لا يستنكفون عن عبودية الله تعالى .
ومنها قوله تعالى : (
ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ) والاستدلال بهذه الآية الكريمة من وجهين : ( الأول ) أنه تعالى احتج بعدم استكبار الملائكة عن عبادته على أن البشر يجب أن لا يستكبروا عنها ، ولو كان البشر أفضل من الملائكة لما تم هذا الاستدلال ، فإن السلطان إذا أراد أن يقرر على رعيته وجوب طاعتهم له فإنه يقول : الملوك لا يستكبرون عن طاعتي فمن هؤلاء المساكين ؟ وبالجملة فظاهر أن هذا الاستدلال لا يتم إلا بالأقوى على الأضعف . ( الثاني ) أنه قال : ومن عنده وهذه عندية الفضيلة والقربة . والجواب عن هذا فهم مما قبله ، وهو أن الملائكة مع تمام قوتهم وشدة بطشهم لا يتمردون عن طاعة الله تعالى ولا يستكبرون ، فما بال البشر يتمردون عن طاعة الله مع غاية ضعفهم ؟ وهذا يوجب كون الملك أقوى من البشر ، لا كونه أفضل منه بمعنى كثرة الثواب ، ويجاب عن الثاني أنه معارض بقوله تعالى في صفة البشر : (
في مقعد صدق عند مليك مقتدر ) ، وقال - عليه السلام - حكاية عن الله تعالى : "
أنا عند المنكسرة قلوبهم " . وهذا أفضل لأنه قال في الملائكة إنهم عند ربهم ، وقال في وصف المنكسرة قلوبهم إن ربهم عندهم . ومنها أن عبادات الملائكة أدوم وأشق فوجب أن تكون أفضل بشاهد قوله تعالى : (
يسبحون الليل والنهار لا يفترون ) وعلى هذا التقدير لو كانت أعمارهم مساوية لأعمال البشر لكان طاعتهم أدوم وأكثر ، فكيف ولا نسبة لعمر كل البشر إلى عمر الملائكة ؟ وإنما فضل الأدوم لأنه أشق فكان أفضل ، وفي الحديث :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1027049 " خيركم من طال عمره وحسن عمله " . والجواب عن هذه بأن لا حجة لهم في شيء من ذلك ، أما كون عبادتهم أشق ( فنقول ) بل عبادة البشر أشق ، لما فيهم من دواعي التخلف والتقاعد والفتور ، وإنما يدل جميع ذلك على قوة الملائكة وهذا مسلم ، ولا حجة لهم أيضا في الحديث لأنه خطاب لبشر خاصة ، ولا يلزم في تفاضل أحد الأنواع بشيء التفاضل به في غيره كما
[ ص: 409 ] لا يخفى ، وأنت إذا تأملت ما تعلقوا به حق التأمل وجدته غير دال على مطلوبهم ، وقد قامت الأدلة من الطرف الآخر على تفضيل الأنبياء ، وكذلك من ألحقناهم بهم في التفضيل في الجملة ، ولا يذهب عليك أنه لا خلاف في فضيلة الملائكة ، وإنما الخلاف في أفضليتهم على خواص بني
آدم . هذا وقد قال بعض العلماء : مسألة تفضيل البشر على الملك أو الملك على البشر ليست مما يضر اعتقاده ويضر الجهل به ، ولو لقي العبد ربه ساذجا من المسألة بالكلية لم يكن عليه إثم فما هي مما كلف الناس بمعرفته .
وقال
القاضي تاج الدين السبكي : الناس ثلاثة : رجل عرف أن الأنبياء أفضل من الملائكة واعتقده بالدليل ، وآخر جهل هذه المسألة ولم يشتغل بها بالكلية ، وهذان لا ضرر عليهما ، قال : وثالث قضى بأن الملك أفضل وهذا على خطر ، وهل يقال من قضى بتفضيل الأنبياء على خطر فيكون الساذج أسلم منه أو أنه ناج لإصابة الحق من الخطر ؟ هذا موضع نظر ، قال : والذي أفهمه عن الوالد السلامة في السكوت عن هذه المسألة ، وأن الدخول في التفضيل بين هذين الصنفين الكريمين على الله تعالى من غير ورود دليل قاطع دخول في خطر عظيم ، وحكم في مكان لسنا أهلا للحكم فيه ، وقد جاءت أحاديث تحسم بإشارتها مادة الدخول في ذلك ، فإن قوله - صلى الله عليه وسلم - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1027050 " لا تفضلوني على يونس بن متى " . ونحوه ونحن على قطع بأنه - صلى الله عليه وسلم - أفضل من
يونس - عليه السلام - ولم يختلف في ذلك أحد ، لعله إشارة إلى أنكم لا تدخلوا في أمر لا يعنيكم ، وما للسوقة والدخول بين الملوك ؟ وأعني بالسوقة في هذا أمثالنا ، وبالملوك الأنبياء والملائكة عليهم السلام . وقد علمت مذاهب الناس مما أسلفنا ، والله أعلم .