[ ص: 117 ] ولا غرو ، فقد اشتملت هذه الآية العظيمة من أسماء الرب وصفاته على ما لم تشتمل عليه آية أخرى .
فقد أخبر الله فيها عن نفسه بأنه المتوحد في إلهيته ، الذي لا تنبغي العبادة بجميع أنواعها وسائر صورها إلا له .
ثم أردف قضية التوحيد بما يشهد لها من ذكر خصائصه وصفاته الكاملة ، فذكر أنه الحي الذي له كمال الحياة ؛ لأن حياته من لوازم ذاته ، فهي أزلية أبدية ، وكمال حياته يستلزم ثبوت جميع صفات الكمال الذاتية له ، من العزة والقدرة والعلم والحكمة والسمع والبصر والإرادة والمشيئة وغيرها ؛ إذ لا يتخلف شيء منها إلا لنقص في الحياة ، فالكمال في الحياة يتبعه الكمال في سائر الصفات اللازمة للحي .
ثم قرن ذلك باسمه القيوم ، ومعناه الذي قام بنفسه ، واستغنى عن جميع خلقه غنى مطلقا لا تشوبه شائبة حاجة أصلا ؛ لأنه غنى ذاتي ، وبه قامت الموجودات كلها ، فهي فقيرة إليه فقرا ذاتيا ، بحيث لا تستغني عنه لحظة ، فهو الذي ابتدأ إيجادها على هذا النحو من الإحكام والإتقان ، وهو الذي يدبر أمورها ، ويمدها بكل ما تحتاج إليه في بقائها ، وفي بلوغ الكمال الذي قدره لها .
فهذا الاسم متضمن لجميع صفات الكمال الفعلية ، كما أن اسمه الحي متضمن لجميع صفات الكمال الذاتية ، ولهذا ورد أن الحي القيوم هما اسم الله الأعظم الذي إذا سئل به أعطى ، وإذا دعي به أجاب .
[ ص: 118 ] ثم أعقب ذلك بما يدل على كمال حياته وقيوميته ، فقال : ( لا تأخذه ) أي لا تغلبه ( سنة ) ؛ أي نعاس ( ولا نوم ) ؛ فإن ذلك ينافي القيومية ؛ إذ النوم أخو الموت ، ولهذا كان أهل الجنة لا ينامون .
والثاني : إبطال الشفاعة الشركية التي كان يعتقدها المشركون لأصنامهم ، وهي أنها تشفع لهم بغير إذن الله ورضاه .
ثم ذكر سعة علمه وإحاطته ، وأنه لا يخفى عليه شيء من الأمور المستقبلة والماضية .
وأما الخلق فإنهم ولا يحيطون بشيء من علمه قيل : يعني من معلومه ، وقيل : من علم أسمائه وصفاته إلا بما شاء الله سبحانه أن يعلمهم إياه على ألسنة رسله ، أو بغير ذلك من طرق البحث والنظر والاستنتاج والتجربة .
ثم ذكر ما يدل على عظيم ملكه ، وواسع سلطانه ، فأخبر أن كرسيه قد وسع السماوات والأرض جميعا .
[ ص: 119 ] والصحيح في الكرسي أنه غير العرش ، وأنه موضع القدمين ، وأنه في العرش كحلقة ملقاة في فلاة .
وأما ما أورده ابن كثير عن nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس في تفسير الكرسي بالعلم ؛ فإنه لا يصح ، ويفضي إلى التكرار في الآية .
ثم أخبر سبحانه بعد ذلك عن عظيم قدرته وكمال قوته بقوله : ولا يئوده حفظهما ؛ أي : السماوات والأرض وما فيهما .
وفسر الشيخ رحمه الله ( يئوده ) ب : ( يثقله ويكرثه ) ، وهو من آده الأمر : إذا ثقل عليه .
[ ص: 120 ] ثم وصف نفسه سبحانه في ختام تلك الآية الكريمة بهذين الوصفين الجليلين ؛ وهما : ( العلي ) ، و ( العظيم ) .
فالعلي : هو الذي له العلو المطلق من جميع الوجوه : علو الذات : وكونه فوق جميع المخلوقات مستويا على عرشه .
وعلو القدر : إذ كان له كل صفة كمال ، وله من تلك الصفة أعلاها وغايتها .
وعلو القهر : إذ كان هو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير .
وأما العظيم فمعناه الموصوف بالعظمة ، الذي لا شيء أعظم منه ، ولا أجل ، ولا أكبر ، وله سبحانه التعظيم الكامل في قلوب أنبيائه وملائكته وأصفيائه .