فصل
إذا علم أن
تقسيم الألفاظ إلى حقيقة ومجاز ليس تقسيما شرعيا ولا عقليا ولا لغويا فهو اصطلاح محض ، وهو اصطلاح حدث بعد القرون الثلاثة المفضلة بالنص ، وكان منشؤه من جهة
المعتزلة والجهمية ومن سلك طريقهم من المتكلمين .
وأشهر ضوابطهم قولهم : إن الحقيقة هي اللفظ المستعمل فيما وضع له أولا ، والمجاز هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له أولا ، ثم زاد بعضهم : في العرف الذي وقع به التخاطب لتدخل الحقائق الثلاث وهي
اللغوية والشرعية والعرفية .
والكلام على ذلك من وجوه : أحدها : ما تعنون باللفظ سواء كانت اللغات توقيفية كما هو قول جمهور الناس ، أو اصطلاحية ، كما هو قول
nindex.php?page=showalam&ids=12187أبي هاشم الجبائي ومن تبعه ، أتعنون به جعل اللفظ دليلا على المعنى ، أم تعنون به غلبة استعمال اللفظ في المعنى حتى يصير فيه أشهر من غيره ، أم تعنون به مطلق الاستعمال ولو مرة واحدة في صورة واحدة ، كما قلتم من
[ ص: 288 ] شرط المجاز الوضع ، فإن الوضع في كلامكم ما يدور على هذه المعاني الثلاثة ، وهذا كله إنما يصح إذا علم أن الألفاظ العربية وضعت أولا لمعان ثم استعملت فيها ، ثم وضع لمعان أخر بعد الوضع الأول والاستعمال بعده والوضع الثاني والاستعمال بعده ، ولا تتم لكم دعوى المجاز إلا بهذه المقامات الأربع ، وليس معكم ولا مع غيركم سوى استعمال اللفظ في المعنى .
وأما إنهم وضعوه لمعنى ثم استعملوه فيه وضعوه بعد ذلك لمعنى آخر غير معناه الأول ثم استعملوه فيه ، فدعوى ذلك قول بلا علم ، وهو حرام في حق المخلوق ، فكيف في كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، فمن يمكنه من بني آدم أن يثبت ذلك ، وهذا لو أمكن العلم به لم يكن له طريق إلا الوحي وخبر الصادق المعلوم بالضرورة صدقه .
الوجه الثاني : أن هذا إنما يمكن دعواه إذا ثبت أن قوما من العقلاء اجتمعوا واصطلحوا على أن يسموا هذا بكذا وهذا بكذا ، ثم استعملوا تلك الألفاظ من تلك المعاني ، ثم بعد ذلك اجتمعوا وتواطئوا على أن يستعملوا تلك الألفاظ بعينها في معان أخر غير المعاني الأول ، لعلاقة بينها وبينها ، وقالوا : هذه الألفاظ حقيقة تلك المعاني مجاز في هذه وهذه ، ولا نعرف أحدا من العقلاء قاله قبل
nindex.php?page=showalam&ids=12187أبي هاشم الجبائي فإنه زعم أن اللغات اصطلاحية ، وأن أهل اللغة اصطلحوا على ذلك ، وهذا مجاهرة بالكذب ، وقول بلا علم ، والذي يعرفه الناس استعمال هذه الألفاظ في معانيها المفهومة منها .
الوجه الثالث : أن قولكم : الحقيقة هي اللفظ المستعمل في موضوعه ، فلزم منه انتفاء كونه حقيقة قبل الاستعمال وليس بمجاز ، فتكون الألفاظ قبل استعمالها لا حقيقة ولا مجازا ، هذا وإن استلزموه فإنه يستلزم أصلا فاسدا ، ومستلزم لأمر فاسد ، أما الأصل الفاسد فهو أن هاهنا وضعا سابقا على الاستعمال ثم اطرد عليه الاستعمال فصار باعتباره حقيقة ومجازا ، وهذا مما لا سبيل إلى العلم به كما تقدم ، ولا يعرف تجرد هذه الألفاظ عن الاستعمال بل تجردها عن الاستعمال محال ، وهو كتجرد الحركة عن المتحرك ، نعم إنما تتجرد في الذهن وهي حينئذ ليست ألفاظا وإنما هي تقدر ألفاظا لا حكم لها ، وثبوتها في الرسم مسبوق بالنطق بها ، فإن الخط يستلزم اللفظ من غير عكس .
وأما استلزامه الأمر الفاسد فإنه إذا تجرد الوضع عن استعمال جاز أن يوضع
[ ص: 289 ] للمعنى الثاني من غير أن يستعمل في معناه الأول ، وحينئذ فيكون مجازا لا حقيقة له ، فإذا الحقيقة هي اللفظ المستعمل في موضوعه ، وقد نقل عنه إلى مجازه ، وهل هذا إلا نوع من الكهانة الباطلة ، اللهم إلا أن يأتي وحي بذلك فيجب المصير إليه .
الوجه الرابع : أن هذا يستلزم تعطيل الألفاظ عن دلالتها على المعاني وذلك ممتنع ، لأن الدليل يستلزم مدلوله من غير عكس .
فإن قيل : لا يلزم من عدم الاستعمال عدم الدلالة فإنهما غير متلازمين ، قيل : بل يلزم لزوما بينا ، فإن دلالته عليه إنما تتحقق باستعماله ، فإن الدلالة هي فهم المعنى من اللفظ عند إطلاقه ، فلا تحقق لها بدون الاستعمال البتة ، والاستعمال إما أن يكون هو معنى الحقيقة والمجاز ، وهذا إنما يقوله من يقول : إن الحقيقة استعمال اللفظ في موضعه ، أو جزء مسمى الحقيقة ، كما يقول من يقول : إنها اللفظ المستعمل في موضعه ، وعلى التقديرين فيلزم تجرد اللفظ عن حقيقته ومجازه قبل الاستعمال مع وجود دلالته على أحدهما ، وهذا جمع بين النقيضين فتأمله .
الوجه الخامس : أن القائلين بالمجاز مختلفون ،
هل يستلزم المجاز الحقيقة أم لا ؟ على قولين ، ولم يختلفوا أن الحقيقة لا تستلزم المجاز ، فإنه لا يجب أن يكون لكل حقيقة مجاز ، والذين قالوا باللزوم احتجوا بأنه لو لم يكن المجاز مستلزما للحقيقة لعري وضع اللفظ للمعنى عن الفائدة ، وكان وضعه عبثا ، والحقيقة عندهم إما استعمال اللفظ وإما وضع اللفظ المستعمل في موضوعه ، فلا يتصور عندهم مجاز حتى يسبقه استعمال في الحقيقة ، وهذا السبق مما لا سبيل لهم العلم به بوجه من الوجوه ، فيستحيل على أصلهم التمييز بين الحقيقة والمجاز .
فإن قالوا : نحن نختار القول الأول وأن المجاز لا يستلزم الحقيقة ، فإن العرب تقول : شابت لمة الليل ، وقامت الحرب على ساق ، وهذه مجازات لم يسبق لها استعمال في حقائقها ولم تستعمل في غير مدلولاتها المجازية .
قيل لهم : الجواب من وجهين : أحدهما : أن المجاز وإن لم يستلزم استعمال اللفظ في حقيقته فلا بد أن يستلزم وضع اللفظ لمعناه الحقيقي ، فلو لم يتقدم وضع هذه الألفاظ لحقائقها لكانت قد وضعت لهذه المعاني وضعا أوليا ، فتكون حقيقة لا مجازا ، فإذا لم يكن لهذه الألفاظ موضوع سوى معناها لم تكن مجازا ، وإن كان لها موضوع سواه بطل الدليل .
[ ص: 290 ] الثاني : أنكم إنما تعنون بقولكم : لو استلزم المجاز الحقيقة لكان كنحو قامت الحرب على ساق ، وشابت لمة الليل ، حقيقة أنه لا بد لمفرداتها من حقيقة ، أو لا بد للتركيب من حقيقة ، فإن أردتم الأول فمسلم .
وهذه المفردات لها حقائق فبطل الدليل ، وإن أردتم الثاني فهو بناء على أن دلالة المركب تنقسم إلى حقيقية ومجازية ، وهذا ينازع فيه جمهور القائلين بالمجاز ، ويقولون : إن المجاز في المفردات لا في التركيب ، إذ لا يعقل وقوعه في التركيب ، لأنه لا يتصور أن يكون للإسناد جهتان : إحداهما جهة حقيقة ، والأخرى جهة مجاز ، بخلاف المفردات ، والفرق بينهما أن الإسناد لم يوضع أولا لمعنى ثم نقل عنه إلى غيره ولا يتصور فيه ذلك وإن تصور في المفرد .