[ ص: 441 ] المثال الثامن : مما ادعي فيه أنه مجاز وهو
حقيقة لفظ ( النزول ) والتنزيل والإنزال حقيقة مجيء الشيء أو الإتيان به من علو إلى أسفل ، هذا هو المفهوم منه لغة وشرعا ، كقوله : (
ونزلنا من السماء ماء مباركا ) وقوله : (
تنزل الملائكة والروح فيها ) وقوله : (
نزل به الروح الأمين ) وقد أخبر الله تعالى أن
جبريل نزل بالقرآن من الله وأنه (
تنزيل من حكيم حميد ) وتواترت الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
بنزول الرب تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا ، فادعى المعطل أن كل ذلك مجاز ، وأن المراد بالتنزيل مجرد إيصال الكتاب وبالنزول الإحسان والرحمة ، وأسند دعواه بقوله تعالى : (
وأنزلنا الحديد ) وبقوله : (
وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج ) قال معلوم أن الحديد والأنعام لم تنزل من السماء إلى الأرض .
والجواب من وجوه : أحدها : أن ما ذكره من مجاز النزول ، وأنه مطلق الوصول لا يعرف في كتاب ، ولا سنة ، ولا لغة ، ولا شرع ، ولا عرف ، ولا استعمال ، فلا يقال لمن صعد إليك في سلم إنه نزل إليك ولا لمن جاءك من مكان مستو نزول ، ولا يقال نزل الليل والنهار إذا جاء ، وذلك وضع جديد ولغة غير معروفة .
الوجه الثاني : إنه لو عرف استعمال ذلك بقرينة لم يكن موجبا لإخراج اللفظ عن حقيقته حيث لا قرينة .
الثالث : إن هذا يرفع الأمان والثقة باللغات ، ويبطل فائدة التخاطب ، إذ لا يشاء السامع أن يخرج اللفظ عن حقيقته إلا وجد إلى ذلك سبيلا .
الرابع : إن قوله معلوم أن الحديد لم ينزل جرمه من السماء إلى الأرض ، وكذلك الأنعام ، يقال له : هذا معلوم لك بالضرورة أم بالاستدلال ، ولا ضرورة يعلم بها ذلك ، وأين الدليل .
الخامس : إنه قد عهد نزول أصل الإنسان وهو آدم من علو إلى أسفل ، كما قال تعالى : (
قال اهبطا منها جميعا ) فما المانع أن ينزل أصل الأنعام من أصل
[ ص: 442 ] الأنام ، وقد روي في نزول الكبش الذي فدى الله به
إسماعيل ما هو معروف ، وقد روي في نزول الحديد ما ذكره كثير من أرباب النقل ، كنزول السندان والمطرقة ، ونحن وإن لم نجزم بذلك فالمدعى أن الحديد لم ينزل من السماء ليس معه ما يبطل ذلك .
السادس : إن الله سبحانه لم يقل أنزلنا الحديد من السماء ، ولا قال وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج من السماء ، فقوله معلوم أن الحديد والأنعام لم ينزل من السماء إلى الأرض لا يخرج لفظة النزول عن حقيقتها ، إذ عدم النزول من مكان معين لا يستلزم عدمه مطلقا .
السابع : إن الحديد إنما يكون في المعادن التي في الجبال وهي عالية على الأرض ، وقد قيل إن كل ما كان معدنه أعلى كان حديده أجود ، وأما قوله :
وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج ، فإن الأنعام تخلق بالتوالد المستلزم إنزال الذكور الماء من أصلابها إلى أرحام الإناث ، ولهذا يقال أنزل ولم ينزل ، ثم إن الأجنة تنزل من بطون الأمهات إلى وجه الأرض ، ومن المعلوم أن الأنعام تعلو فحولها إناثها بالوطء ، وينزل ماء الفحل من علو إلى رحم الأنثى وتلقي ولدها عند الولادة من علو إلى أسفل ، وعلى هذا فيحتمل قوله : (
وأنزل لكم من الأنعام ) وجهين :
أحدهما : أن يكون المراد الجنس كما هو الظاهر ، ويكون كقوله : (
وأنزلنا الحديد ) فتكون ( من ) لبيان الجنس .
الثاني : أن يكون من لابتداء الغاية كقوله : (
وخلق منها زوجها ) فيكون قد ذكر المحل الذي أنزلت منه وهو أصلاب الفحول ، وهذان الوجهان يحتملان في قوله : (
جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا ) هل المراد جعل لكم من جنسكم أزواجا أو المراد جعل أزواجكم من أنفسكم وذواتكم ، كما جعلت
حواء من نفس
آدم ، وكذلك تكون أزواج الأنعام مخلوقة من ذوات الذكور والأول أظهر لأنه لم يوجد الزوج من نفس الذكر إلا من
آدم وحده ، وأما سائر النوع فالزوج مأخوذ من الذكر والأنثى .
الوجه الثامن : إن الله سبحانه ذكر الإنزال على ثلاث درجات : أحدها : إنزال مطلق كقوله : (
وأنزلنا الحديد ) فأطلق الإنزال ولم يذكر مبدأه ، كقوله : (
وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج ) .
[ ص: 443 ] الثانية : الإنزال من السماء ، كقوله : (
وأنزلنا من السماء ماء طهورا ) .
الثالثة : إنزال منه ، كقوله : (
تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم ) وقوله : (
تنزيل من حكيم حميد ) وقوله : (
تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم ) وقوله : (
قل نزله روح القدس من ربك بالحق ) وقال : (
والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق ) فأخبر أن القرآن منزل منه ، والمطر منزل من السماء ، والحديد والأنعام منزلان نزولا مطلقا ، وبهذا يظهر تلبيس
المعطلة والجهمية والمعتزلة حيث قالوا إن كون القرآن منزلا لا يمنع أن يكون مخلوقا ، كالماء والحديد والأنعام ، حتى علا بعضهم فاحتج على كونه مخلوقا بكونه منزلا ، والإنزال بمعنى الخلق .
الله سبحانه فرق بين النزول منه والنزول من السماء ، فجعل القرآن منزلا منه ، والمطر منزلا من السماء ، وحكم المجرور بمن في هذا الباب حكم المضاف والمضاف إليه سبحانه نوعان :
أحدهما : أعيان قائمة بنفسها ، كبيت الله وناقة الله وروح الله وعبده ، فهذا إضافة مخلوق إلى خالقه ، وهي إضافة اختصاص وتشريف .
الثاني : إضافة صفة إلى موصوفها كسمعه وبصره وعلمه وحياته وقدرته وكلامه ووجهه ويديه ومشيئته ورضاه وغضبه ، فهذا يمتنع أن يكون المضاف فيه مخلوقا منفصلا ، بل هو صفة قائمة به سبحانه .
إذا عرف هذا فهكذا حكم المجرور بمن ، فقوله : (
وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه ) لا يقتضي أن تكون أوصافا له قائمة به ، وقوله : (
ولكن حق القول مني ) وقوله : (
تنزيل من حكيم حميد ) يقتضي أن يكون هو المتكلم به ، وأنه منه بدأ وإليه يعود ، ولبست
المعتزلة ولم يهتدوا إلى هذا الفرقان ، وجعلوا الجميع بابا واحدا ، وقابلهم طائفة
الاتحادية وجعلوا الجميع منه بعض التبعيض والجزئية ولم يهتد الطائفتان للفرق .
[ ص: 444 ] الوجه التاسع : إن الله سبحانه قال : (
لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ) فالكتاب كلامه والميزان عدله ، فأخبر أنه أنزلهما مع رسله ، ثم قال : (
وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ) ولم يقل وأنزلنا معهم الحديد ، فلما ذكر كلامه وعدله أخبر أنه أنزلهما مع رسله ، ولما ذكر مخلوقه الناصر لكتابه وعدله أطلق إنزاله ولم يقيد به إنزال كلامه ، فالمسوي بين الإنزالين مخطئ في اللفظ والمعنى .
الوجه العاشر : إن نزول الرب تبارك وتعالى إلى سماء الدنيا قد تواترت الأخبار به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، رواه عنه نحو ثمانية وعشرين نفسا من الصحابة ، وهذا يدل على أنه كان يبلغه في كل موطن ومجمع ، فكيف تكون حقيقته محالا وباطلا وهو صلى الله عليه وسلم يتكلم بها دائما ويعيدها ويبديها مرة بعد مرة ، ولا يقرن باللفظ ما يدل على مجازه بوجه ما ، بل يأتي بما يدل على إرادة الحقيقة ؟ كقوله : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10347291ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا فيقول : وعزتي وجلالي لا أسأل عن عبادي غيري " وقوله : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10347382من ذا الذي يسألني فأعطيه ، من ذا الذي يستغفرني فأغفر له ، من ذا الذي يدعوني فأستجيب له " ، وقوله : "
فيكون كذلك حتى يطلع الفجر ثم يعلو على كرسيه " فهذا كله بيان الإرادة الحقيقة ، ومانع من حمله على المجاز ، وقد صرح
nindex.php?page=showalam&ids=17211نعيم بن حماد وجماعة من أهل الحديث آخرهم
nindex.php?page=showalam&ids=11890أبو الفرج ابن الجوزي أنه سبحانه ينزل إلى السماء الدنيا بذاته ، ونظم
أبو الفرج ذلك في قوله :
أدعوك للوصل تأبى أبعث رسولي في الطلب أنزل إليك بنفسي
ألقاك في النوام
وقال الحافظ
nindex.php?page=showalam&ids=12168أبو موسى المديني في مناقب الإمام
nindex.php?page=showalam&ids=13966أبي القاسم إسماعيل بن محمد التيمي الذي جعله الله مجددا للدين في رأس المائة الخامسة قال : وكان من اعتقاد الإمام
nindex.php?page=showalam&ids=12436إسماعيل بن محمد أن نزول الله بالذات وهو مشهور في مذهبه وقد كتبه في فتاو عديدة ، وأملى فيه إملاء إلا أنه كان يقول : إسناد حديث
نعيم [ ص: 445 ] ابن حماد إسناد مدخول وفيه مقال ، مراده بحديث
nindex.php?page=showalam&ids=17211نعيم بن حماد عن
nindex.php?page=showalam&ids=15628جرير بن عبد الحميد عن
بشر عن
أنس يرفعه قال "
إذا أراد الله أن ينزل عن عرشه نزل بذاته " .
قلت : وهذا اللفظ لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يحتاج إثبات هذا المعنى إليه ، فالأحاديث الصحيحة صريحة وإن لم يذكر فيها لفظ الذات .
الحادي عشر : إن الخبر وقع عن نفس ذات الله تعالى لا عن غيره فإنه قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10347385إن الله ينزل إلى سماء الدنيا " فهذا خبر عن معنى لا عن لفظ ، والمخبر عنه هو مسمى هذا الاسم العظيم فإن الخبر يكون عن اللفظ تارة وهو قليل ويكون مسماه ومعناه وهو الأكثر ، فإذا قلت زيد عندكم وعمرو قائم ، فإنما أخبرت عن الذات لا عن الاسم فقوله : (
الله خالق كل شيء ) هو خبر عن ذات الرب تعالى فلا يحتاج المخبر أن يقول خالق كل شيء بذاته ، وقوله : (
الله ربكم ) قد علم أن الخبر عن نفس ذاته ، وقوله : (
الله أعلم حيث يجعل رسالته ) وكذلك جميع ما أخبر الله به عن نفسه إنما هو خبر عن ذاته لا يجوز أن يخص من ذلك إخبار واحد البتة .
فالسامع قد أحاط علما بأن الخبر إنما هو عن ذات المخبر عنه ، ويعلم المتكلم بذلك لم يحتج أن يقول أنه بذاته فعل وخلق واستوى ، فإن الخبر عن مسمى اسمه وذاته هذا حقيقة الكلام ، ولا ينصرف إلى غير ذلك إلا بقرينة ظاهرة تزيل اللبس وتعين المراد ، فلا حاجة بنا أن نقول : استوى على عرشه بذاته ، وينزل إلى السماء بذاته ، كما لا يحتاج أن نقول خلق بذاته وقدر بذاته وسمع وتكلم بذاته ، وإنما قال أئمة السنة ذلك إبطالا لقول
المعطلة .
الثاني عشر : إن قوله "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10347203من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له " إذا ضممت هذا إلى قوله "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10347386ينزل ربنا إلى السماء الدنيا " وإلى قوله " فيقول " وإلى قوله : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10347387لا أسأل عن عبادي غيري " علمت أن هذا مقتضى الحقيقة لا المجاز ، وأن هذا السياق نص في معناه لا يحتمل غيره بوجه ، خصوصا إذا أضيف إلى قوله "
ثم يعلو على كرسيه " وقوله في حديث المزيد في الجنة الذي قال فيه :
إن ربك اتخذ في الجنة واديا أفيح من مسك أبيض ، فإذا كان يوم الجمعة نزل عن كرسيه ، ثم ذكر الحديث وفي آخره ، ثم يرتفع معه النبيون والصديقون .