وإذا عرف هذا فالعلم بأنه صلى الله عليه وسلم مذكور في الكتب المقدسة يعرف من وجوه متعددة :
أحدها : إخبار من قد ثبتت نبوته قطعا بأنه مذكور عندهم في كتبهم ، فقد أخبر به من قام الدليل القطعي على صدقه فيجب تصديقه فيه ، إذ تكذيبه والحالة هذه ممتنع لذاته ، هذا لو لم يعلم ذلك إلا من مجرد خبره ، فكيف إذا تطابقت الأدلة على صحة ما أخبر به .
الثاني : أنه جعل الإخبار به من أعظم أدلة صدقه وصفة نبوته ، وهذا يستحيل أن يصدر إلا من واثق كل الوثوق بذلك وأنه على يقين جازم به .
الثالث : أن المؤمنين به من الأحبار والرهبان الذي آثروا الحق على الباطل صدقوه في ذلك وشهدوا له بما قال .
[ ص: 307 ] الرابع : أن المكذبين الجاحدين لنبوته لم يمكنهم إنكار
البشارة والإخبار بنبوته وأنه نبي عظيم الشأن صفته كذا وكذا ، ونعته كذا وكذا ، وصفة أمته ومخرجه ، ومنشؤه ، وشأنه ، لكنهم جحدوا أنه هو الذي وقعت به البشارة ، وأنه نبي آخر غيره ، وعلموا هم والمؤمنون به من قومهم أنهم ركبوا متن المكابرة وامتطوا غارب البهت .
الخامس : أن كثيرا منهم صرح لخاصته وبطانته بأنه هو بعينه ، وأنه عازم على عداوته ما بقي كما تقدم .
السادس : أن إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بأنه مذكور في كتبهم هو فرد من أفراد إخباراته بما عندهم في كتبهم من شأن أنبيائهم وقومهم ، وما جرى لهم ، وقصص الأنبياء المتقدمين وأممهم ، وشأن المبدأ والمعاد ، وغير ذلك مما أخبرت به الأنبياء ، وكل ذلك مما يعلمون صدقه فيه ، ومطابقته لما عندهم ، وتلك الأخبار أكثر من أن تحصى ، ولم يكذبوه يوما واحدا في شيء منها ، وكانوا أحرص شيء على أن يظفروا منه بكذبة واحدة أو غلطة أو سهو فينادون بها عليه ، ويجدون بها السبيل إلى تنفير الناس عنه ، فلم يقل أحد منهم يوما من الدهر ، ولم يظفروا بقول أنه أخبر بكذا وكذا في كتبنا وهو كاذب فيه ، بل كانوا يصدقونه في ذلك ، وهم مصرون على عدم اتباعه ، وهذا من أعظم
[ ص: 308 ] الأدلة على صدقه فيما أخبر به لو لم يكن يعلم إلا بمجرد خبره .
السابع : أنه أخبر بهذا لأعدائه من المشركين الذين لا كتاب لهم وأخبر به لأعدائه من أهل الكتاب وأخبر به لأتباعه ، فلو كان هذا باطلا لا صحة له ، لكان ذلك تسليطا للمشركين أن يسألوا أهل الكتاب ، فينكرون ذلك ، وتسليطا لأهل الكتاب على الإنكار ، وتسليطا لأتباعه على الرجوع عنه ، والتكذيب له بعد تصديقه ، وذلك ينقض الغرض المقصود بإخباره من كل وجه ، وهو بمنزلة رجل يخبر بما يشهد بكذبه ، ويجعل إخباره دليلا على صدقه ويجعل إخباره تصديقا ، وهذا لا يصدر من عاقل ولا مجنون .
فهذه الوجوه يعلم بها صدق ما أخبر به ، وإن لم يعلم وجوده من غير جهة إخباره ، فكيف وقد علم وجود ما أخبر به .
الثامن : أنه إن قدر أنهم لم يعلموا بشارة الأنبياء به ، وإخبارهم بنعته وصفته ، لم يلزم أن لا يكونوا ذكروه وأخبروا به وبشروا بنبوته ، إذ ليس كل ما قاله الأنبياء المتقدمون وصل إلى المتأخرين وأحاطوا به علما ، وهذا مما يعلم بالاضطراد ، فكم من قول قد قاله
موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام ، ولا علم لليهود والنصارى به ، فإذا أخبر به من قام الدليل القطعي على صدقه لم يكن جهلهم به موجبا لرده وتكذيبه .
التاسع : أنه يمكن أن يكون في نسخ غير هذه النسخ التي بأيديهم ، فأزيل من بعضها ، ونسخت هذه مما أزيل منه . وقولهم إن نسخ التوراة متفقة في شرق الأرض
[ ص: 309 ] وغربها - كذب ظاهر ، فهذه التوراة التي بأيدي النصارى ، تخالف التوراة التي بأيدي اليهود ، والتي بأيدي السامرة تخالف هذه وهذه ، وهذه نسخ الإنجيل يخالف بعضها بعضا ، ويناقضه ، فدعواهم أن نسخ التوراة والإنجيل متفقة شرقا وغربا من البهت والكذب الذي يروجونه على أشباه الأنعام ، حتى أن هذه
التوراة التي بأيدي اليهود فيها من الزيادة والتحريف والنقصان مما لا يخفى على الراسخين في العلم ، وهم يعلمون قطعا أن ذلك ليس في التوراة التي أنزلها الله على
موسى عليه الصلاة والسلام ، وذلك مثل قولهم حكاية نزول الألواح ، وكيف رمى بها
موسى عليه الصلاة والسلام ، وقصة وفاة
موسى .
ونفس الألواح كانت هي التوراة ، ووفاة
موسى إنما حدثت بعد نزول التوراة بسنين عديدة .
ومنها حكاية
موسى أنه نسخ ما في الألواح بخطه ، ولا في الإنجيل الذي أنزل على
عيسى عليه الصلاة والسلام .
وكيف يكون في الإنجيل الذي أنزل على
المسيح قصة صلبه ، وما جرى له ، وأنه كذا وكذا وصلب يوم كذا وكذا ، وصلب ودفن وقام من القبر بعد ثلاث ، وغير ذلك مما هو من كلام شيوخ النصارى ، وغايته أن يكون من كلام الحواريين خلطوه بالإنجيل
[ ص: 310 ] وسموا الجميع إنجيلا ، ولذلك كانت الأناجيل عندهم أربعة يخالف بعضها بعضا .
ومن بهتهم وكذبهم قولهم : إن التوراة التي بأيديهم وأيدي اليهود والسامرة سواء .
والنصارى لا يقرون أن الإنجيل منزل من عند الله على
المسيح ، وأنه كلام الله ، بل كل فرقهم مجمعون على أنها أربعة ( أناجيل ) تواريخ ألفها أربعة رجال معروفون في أزمان مختلفة ، ولا يعرفون الإنجيل على غير هذا .
إنجيل ألفه (
متى ) تلميذ المسيح بعد سبع سنين من رفع
المسيح ، وكتب بالعبرانية في بلد يهودا
بالشام .
وإنجيل ألفه (
مرقس ) الهاروني تلميذ
شمعون بعد ثلاث وعشرين سنة من رفع
المسيح ، وكتبه باليونانية في بلد
أنطاكية من بلاد الروم ، ويقولون إن
شمعون المذكور هو ألفه ، ثم محي اسمه من أوله ونسب إلى تلميذه
مرقس .
[ ص: 311 ] وإنجيل ألفه (
لوقا ) الطبيب الأنطاكي تلميذ
شمعون بعد تأليف
مرقس .
وإنجيل ألفه (
يوحنا ) تلميذ المسيح ( بعد رفعه ) ببضع وستين سنة ، كتبه باليونانية .
وكل واحد من هذه الأربعة يسمونه الإنجيل ، وبينها من التفاوت والزيادة والنقصان ما يعلمه الواقف عليها ، وبين توراة السامرة واليهود والنصارى من ذلك ما يعلمه الواقف عليها .
فدعوى الكاذب الباحث أن نسخ التوراة والإنجيل متفقة شرقا وغربا ، بعدا وقربا من أعظم الفرية والكذب ، وقد ذكر غير واحد من علماء الإسلام ما بينها من التفاوت والزيادة والنقصان والتناقض ، لمن أراد الوقوف عليها ، ولولا الإطالة وقصد ما هو أهم منه لذكرنا منه طرفا كبيرا .