هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
[ ص: 407 ] وذكر الترمذي وغيره من حديث عبد الرحمن بن غزوان وهو ثقة : أخبرنا يونس بن أبي إسحاق ، عن أبي بكر بن موسى ، عن أبيه ، قال : خرج أبو طالب إلى الشام وخرج معه النبي صلى الله عليه وسلم في أشياخ من قريش ، فلما أشرفوا على الراهب حطوا عن رحالهم فخرج إليهم الراهب وكانوا قبل ذلك يمرون به فلا يخرج إليهم ولا يلتفت . قال : فهم يحلون رحالهم فجعل يتخللهم الراهب حتى إذا جاء فأخذ بيد النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : هذا سيد العالمين ، هذا يبعثه الله تعالى رحمة للعالمين ، فقال له أشياخ قريش : ما علمك ؟ فقال : إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق شجر ولا حجر إلا خر ساجدا ، ولا يسجدون إلا لنبي ، وإني أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة ، ثم رجع فصنع لهم طعاما ، فلما أتاهم به ، وكان هو في رعية الإبل ، قال : أرسلوا إليه ، فأقبل وعليه غمامة مظللة ، فلما دنا من القوم وجدهم قد سبقوه إلى فيء شجرة ، فلما جلس مال فيء الشجرة عليه ، فقال : انظروا إلى فيء الشجرة مال عليه . قال : فبينما هو قائم عليهم يناشدهم أن لا يذهبوا به إلى الروم فإن الروم إن رأوه عرفوه بالصفة فيقتلونه ، وإذا بسبعة من الروم قد أقبلوا فاستقبلهم ، وقال : ما جاء بكم ؟ قالوا : بلغنا أن هذا النبي خارج في هذا الشهر ، فلم يبق طريق إلا بعث إليه بأناس ، وإنا قد أخبرنا خبره في طريقك هذا ، قال : أفرأيتم أمرا أراد الله أن يقضيه فهل يستطيع أحد من الناس منعه ؟ قالوا : لا ، قال : فبايعوه وأقيموا معه ، قال : أنشدكم الله أيكم وليه ؟ قالوا : أبو طالب ، فلم يزل يناشدهم حتى رده .

[ ص: 408 ] وقد روى محمد بن سعد هذه القصة مطولة ، قال ابن سعد : حدثنا محمد بن عمر بن واقد ، حدثنا محمد بن صالح ، وعبد الله بن جعفر الزبيري ، قال محمد بن عمرو : وحدثنا ابن أبي حبيبة ، عن داود بن الحصين ، قال لما خرج أبو طالب إلى الشام وخرج معه رسول الله صلى الله عليه وسلم في المرة الأولى وهو ابن اثنتي عشرة سنة ، فلما نزل الركب بصرى من أرض الشام وبها راهب يقال له بحيرة في صومعة له ، وكان علماء النصارى يكونون في تلك الصومعة يتوارثونها عن كتاب يدرسونه ، فلما نزلوا على بحيرا وكانوا كثيرا ما يمرون به ولا يكلمهم حتى إذا كان ذلك العام ونزلوا منزلا قريبا من صومعته ، قد كانوا ينزلونه قبل ذلك كلما مروا ، فصنع لهم طعاما ثم دعاهم ، وإنما حمله على دعائهم أنه رآهم حين طلعوا وغمامة تظل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى نزلوا تحت الشجرة ، ثم نظر إلى تلك الغمامة أظلت تلك الشجرة فاخضلت أغصان الشجرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استظل تحتها ، فلما رأى بحيرة ذلك نزل من صومعته وأمر بذلك الطعام ، فأتي به وأرسل إليهم ، وقال : إني قد صنعت لكم طعاما يا معشر قريش ، وأنا أحب أن تحضروه كلكم ، ولا تخلفوا أحدا منكم كبيرا ولا صغيرا حرا ولا عبدا ، فإن هذا شيء تكرموني به ، فقال رجل : إن لك لشأنا يا بحيرة ، ما كنت تصنع هذا ، فما شأنك اليوم ؟ قال : إني أحب أن أكرمكم ، ولكم حق ، فاجتمعوا إليه وتخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين القوم لحداثة سنه في رحالهم تحت الشجرة . فلما نظر بحيرة إلى القوم فلم ير الصفة التي يعرفها ويجدها عنده ، وجعل ينظر فلا يرى الغمامة على أحد من القوم ويجدها على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال بحيرة : يا معشر قريش لا يتخلفن منكم أحد عن طعامي ، قالوا : ما تخلف أحد إلا غلام هو أحدث القوم سنا في رحالهم ، فقال : ادعوه ليحضر طعامي فما أقبح أن تحضروا ويتخلف رجل واحد مع أني أراه من أنفسكم ، فقال القوم : هو والله أوسطنا نسبا ، وهو ابن أخ هذا الرجل يعنون أبا طالب ، وهو من ولد عبد المطلب ، فقال الحارث بن عبد المطلب : والله إن كان بنا للؤم أن يتخلف ابن عبد المطلب من بيننا ، ثم [ ص: 409 ] قام إليه فاحتضنه وأقبل به حتى أجلسه على الطعام ، والغمامة تسير على رأسه ، وجعل بحيرا يلحظه لحظا شديدا وينظر إلى أشياء في جسده ، قد كان يجدها عنده في صفته ، فلما تفرقوا عن الطعام قام إليه الراهب ، فقال : يا غلام ، أسألك بحق اللات والعزى إلا ما أخبرتني عما أسألك ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تسألني باللات والعزى فوالله ما أبغضت شيئا بغضهما ، قال : فبالله إلا أخبرتني عما أسألك عنه ، قال : سلني عما بدا لك ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره فيوافق ذلك ما عنده ، ثم جعل ينظر بين عينيه ، ثم كشف عن ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه على الصفة التي عنده فقبل موضع الخاتم . وقالت قريش : إن لمحمد عند هذا الراهب لقدرا ، وجعل أبو طالب لما يرى من الراهب يخاف على ابن أخيه ، فقال الراهب لأبي طالب : ما هذا الغلام منك ؟ قال : هو ابني ، قال : ما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حيا ، قال : فابن أخي ، قال : فما فعل أبوه ؟ قال : هلك وأمه حبلى ، قال : فما فعلت أمه ؟ قال : توفيت قريبا ، قال : صدقت ، ارجع بابن أخيك إلى بلده واحذر عليه اليهود ، فوالله لئن عرفوا منه ما أعرف لتبغنه عنتا ، وإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم نجده في كتابنا ، واعلم أني قد أديت إليك النصيحة ، فلما فرغوا من تجارتهم خرج به سريعا ، وكان رجال من يهود قد رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفوا صفته فأرادوا أن يغتالوه ، فذهبوا إلى بحيرا فذكروا له أمره فنهاهم أشد النهي ، وقال لهم : أتجدون صفته ؟ قالوا : نعم ، قال فما لكم إليه سبيل ، فصدقوه وتركوه ، ورجع أبو طالب فما خرج به سفرا بعد ذلك خوفا عليه .

وذكر الحاكم والبيهقي وغيرهما من حديث عبد الله بن إدريس ، عن شرحبيل بن مسلم ، عن أبي أمامة ، عن هشام بن العاص ، قال : ذهبت أنا ورجل من قريش إلى هرقل صاحب الروم ندعوه إلى الإسلام ، فخرجنا حتى قدمنا الغوطة غوطة دمشق ، فنزلنا على جبلة بن الأيهم الغساني ، فدخلنا عليه فإذا هو على سرير له ، فأرسل إلينا برسول نكلمه ، فقلنا : [ ص: 410 ] لا والله لا نكلم رسولا إنما بعثنا إلى الملك ، فإن أذن لنا كلمناه ، وإلا لم نكلم الرسول ، فرجع إليه الرسول فأخبره بذلك ، قال : فأذن لنا ، فقال : تكلموا . فكلمه هشام بن العاص ودعاه إلى الإسلام وإذا عليه ثياب سواد ، فقال له هشام : ما هذه التي عليك ؟ فقال لبستها وحلفت أن لا أنزعها حتى أخرجكم من الشام ، قلنا : ومجلسك هذا فوالله لنأخذنه منك ، ولنأخذن منك الملك الأعظم ، أخبرنا بذلك نبينا ، فقال : لستم بهم ، بل هم قوم يصومون بالنهار ويفطرون بالليل فكيف صومكم ؟ فأخبرناه فملئ وجهه سوادا ، فقال : قوموا . وبعث رسولا إلى الملك فخرجنا حتى إذا كنا قريبا من المدينة ، قال لنا الذي معنا : إن دوابكم هذه لا تدخل مدينة الملك ، فإن شئتم حملناكم على براذين وبغال ، قلنا : والله لا ندخل إلا عليها ، فأرسلوا إلى الملك أنهم يأبون ، فدخلنا على رواحلنا متقلدين سيوفنا حتى انتهينا إلى غرفة له ، فأنخنا في أصلها وهو ينظر إلينا ، فقلنا : لا إله إلا الله والله أكبر . والله يعلم لقد انتفضت الغرفة حتى صارت كأنها عذق تصفقه الرياح . فأرسل إلينا : ليس لكم أن تجهروا علينا بدينكم ، وأرسل إلينا أن ادخلوا ، فدخلنا عليه وهو على فراش له وعنده بطارقته من الروم ، وكل شيء في مجلسه أحمر وما حوله أحمر ، وعليه ثياب من الحمرة ، فدنونا منه فضحك ، وقال : ما كان عليكم لو حييتموني بتحيتكم فيما بينكم ؟ وإذا رجل فصيح بالعربية كثير الكلام ، فقلنا : إن تحيتنا فيما بيننا لا تحل لك ، وتحيتك التي تحيى بها لا تحل لنا أن نحييك بها ، فقال : كيف تحيتكم فيما بينكم ؟ قلنا : السلام عليكم . فقال : كيف تحيون ملككم ، قلنا : بها ، قال : فكيف يرد عليكم ؟ قلنا : بها ، قال : فما أعظم كلامكم ؟ قلنا : لا إله إلا الله والله أكبر . فلما تكلمنا بها - يعلم الله - لقد انتفضت الغرفة حتى رفع رأسه إليها ، قال : هذه الكلمة التي قلتموها حيث انتفضت الغرفة ، كلما قلتموها في بيوتكم تنتفض بيوتكم عليكم ؟ [ ص: 411 ] قلنا : لا ، ما رأيناها فعلت هذا قط إلا عندك ، قال : وددت أنكم كلما قلتموها ينتفض كل شيء عليكم وإني خرجت من نصف ملكي ، قلنا : لم ؟ قال : لأنه يكون أيسر لشأنها وأحذر أن لا تكون من أمر النبوة ، وأن لا تكون من حيل الناس ، ثم سألنا عما أراد فأخبرناه . فقال : كيف صلاتكم وصومكم ؟ فأخبرناه ، فقال : قوموا ، فقمنا ، فأمر لنا بمنزل حسن ونزل كثير ، فأقمنا ثلاثا ، فأرسل إلينا ليلا ، فدخلنا عليه ، فاستعاد قولنا فأعدناه ، ثم دعا بشيء كهيئة الربعة العظيمة مذهبة فيها بيوت صغار عليها أبواب ففتحها بيتا وقفلا فاستخرج حريرة سوداء نشرها ، فإذا فيها صورة حمراء ، فإذا فيها رجل ضخم العينين ، عظيم الأليتين لم أر مثل طول عنقه ، فإذا ليست له لحية ، وإذا له ظفيرتان أحسن ما خلق الله تعالى ، قال : هل تعرفون هذا ؟ قلنا : لا ، قال هذا آدم عليه السلام ، وإذا هو أكثر الناس شعرا ، ثم فتح بابا آخر واستخرج منه حريرة سوداء ، وإذا فيها صورة بيضاء وإذا له شعر قطط ، أحمر العينين ، ضخم الهامة ، حسن اللحية ، قال : هل تعرفون هذا : قلنا : لا ، قال : هذا نوح عليه السلام ، ثم فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة سوداء فيها رجل شديد البياض حسن العينين صلت الجبين طويل الخد ، أبيض اللحية كأنه يتبسم ، قال : هل تعرفون هذا ؟ قلنا : لا ، قال : هذا إبراهيم عليه السلام ، ثم فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة بيضاء فإذا فيها صورة ، وإذا والله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : أتعرفون من هذا ؟ قلنا : نعم ، محمد رسول الله ، وبكينا . قال : والله يعلم أنه قام قائما ثم جلس ، فقال : والله إنه لهو ؟ قلنا : نعم إنه لهو كأنما ننظر إليه ، فأمسك ساعة ينظر إليها ، ثم قال : أما إنه كان آخر البيوت ، ولكن عجلته لكم لأنظر [ ص: 412 ] ما عندكم ، ثم فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة سوداء فإذا فيها صورة أدماء سحماء ، وإذا رجل جعد قطط غائر العينين حديد النظر عابس متراكب الأسنان مقلص الشفة كأنه غضبان ، قال : هل تعرفون من هذا ؟ قلنا : لا ، قال : هذا موسى بن عمران ، وإلى جنبه صورة تشبهه إلا أنه مدهان الرأس ، عريض الجبين ، في عينيه قبلة ، قال هل تعرفون هذا ؟ قلنا : لا ، قال : هذا هارون ، ثم فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة بيضاء فإذا فيها صورة رجل آدم سبط ربعة كأنه غضبان ، فقال : هل تعرفون هذا ؟ قلنا : لا ، قال : هذا لوط . ثم فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة بيضاء فإذا فيها صورة رجل أبيض يشرب بحمرة أقنى خفيف العارضين حسن الوجه ، فقال : هل تعرفون هذا قلنا لا ، قال : هذا إسحاق ، ثم فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة بيضاء فإذا فيها صورة تشبه إسحاق إلا أنه على شفته السفلى خال ، فقال : تعرفون هذا ؟ قلنا : لا ، قال هذا يعقوب ، ثم فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة سوداء فيها صورة رجل أبيض حسن الوجه ، أقنى الأنف ، حسن القامة ، يعلو وجهه نور ، يعرف في وجهه الخشوع ، يضرب إلى الحمرة ، فقال : هل تعرفون هذا ؟ قلنا : لا ، قال : هذا إسماعيل جد نبيكم ، ثم فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة بيضاء ، فيها صورة كأنها صورة آدم كأن وجهه الشمس ، فقال : هل تعرفون هذا ؟ قلنا : لا ، قال : هذا يوسف . ثم فتح بابا آخر فاستخرج حريرة بيضاء فيها صورة رجل أحمر ، حمش الساقين ، أخفش العينين ، ضخم البطن ، ربعة متقلدا سيفا ، فقال : هل تعرفون هذا ؟ قلنا : لا ، قال : هذا داود ، ثم فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة [ ص: 413 ] بيضاء فيها صورة رجل ضخم الأليتين ، طويل الرجلين ، راكبا فرسا ، فقال : هل تعرفون هذا ؟ قلنا : لا ، قال : هذاسليمان بن داود . ثم فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة سوداء فإذا فيها صورة بيضاء وإذا رجل شاب شديد سواد اللحية ، لين الشعر ، حسن الوجه ، حسن العينين ، فقال : هل تعرفون هذا ؟ قلنا : لا ، قال : هذا عيسى ابن مريم . قلنا : من أين لك هذه الصور ، لأنا نعلم أنها على ما صورت عليه الأنبياء ، لأنا رأينا صورة نبينا مثله ؟ قال : إن آدم سأل ربه أن يريه الأنبياء من ولده فأنزل عليه صورهم ، وكانوا في خزانة آدم عند مغرب الشمس فاستخرجها ذو القرنين فصارت إلى دانيال ، ثم قال : أما والله إن نفسي طالبت بالخروج من ملكي ، وإني كنت كاسرا بكم ملكه حتى أموت . ثم أجازنا وأحسن جائزتنا وسرحنا ، فلما أتينا أبا بكر الصديق رضي الله عنه فأخبرناه بما رأينا وما قال لنا وما أجازنا فبكى أبو بكر ، وقال : لو أراد الله به خيرا لفعل .

التالي السابق


الخدمات العلمية