صفحة جزء
( باب ما جاء في صفة مغفر رسول الله صلى الله عليه وسلم )

المغفر بكسر الميم وفتح الفاء ، ما يلبس تحت البيضة ، ويطلق على البيضة أيضا ، وأصل الغفر الستر ، كذا في المغرب ، وقيل : هي حلقة تنسج من الدرع على قدر الرأس ، وفي المحكم هو ما يجعل من فضل درع الحديد على الرأس كالقلنسوة ، وقيل : هو رفرف البيضة [ ص: 199 ] ( حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا مالك بن أنس ) أي صاحب المذهب ( عن ابن شهاب ) أي الزهري ( عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة وعليه مغفر ) وفي رواية عن مالك : مغفر من حديد ، ويعارضه ما روى مسلم عن جابر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا يحل لأحدكم أن يحمل بمكة السلاح ، وأجيب بأن مكة أبيحت له ساعة من نهار ، ولم تحل لأحد بعده ، كما صح عنه صلى الله عليه وسلم ، فلذا دخلها متهيئا للقتال ، وقيل : خصص النهي بما إذا لم يكن ضرورة في حمله ; ولذا دخل عام عمرة القضاء ومعه ومع المسلمين السلاح في القراب ، وأما مجرد حمله فمكروه ، وقيل : المراد من النهي حمل السلاح للمحاربة مع المسلمين ، ويجوز أن يكون النهي بعد فعله صلى الله عليه وسلم على أنه يجوز له ما لا يجوز لغيره ( فقيل له ) أي بعد أن نزع المغفر ( هذا ابن خطل ) بمعجمة ومهملة مفتوحتين اسمه عبد العزى ، فلما أسلم سمي عبد الله ( متعلق بأستار الكعبة ) خبر بعد خبر أي خوفا من قتله ; لأنه كان ارتد عن الإسلام بعد أن كتب الوحي ، وقتل مسلما كان يخدمه لما أرسله النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة ، واتخذ قينتين تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين ، قال العصام : ودخل الكعبة وتعلق بأستارها متمسكا بأن من دخله كان آمنا انتهى . وليس في الحديث ما يدل على دخوله . والتمسك غير صحيح ، فإنه لم يكن مؤمنا ، وإنما تعلق بما هو من عادة الجاهلية ، أنهم كانوا يعظمون من تمسك بذيل الكعبة في كل جريمة ، ولا ينافيه قوله صلى الله عليه وسلم : " من دخل المسجد فهو آمن ، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن " ; لأنه من المستثنين لما عند الدارقطني والحاكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أربعة لا أؤمنهم لا في حل ولا في حرم ، الحويرث بن نقيد ، وهلال بن خطل ، ومقيس بن صبابة ، وعبد الله بن أبي سرح ، وفي حديث سعد بن أبي وقاص عند البزار والحاكم والبيهقي في الدلائل نحوه ، لكن قال : أربعة نفر وامرأتان ، وقال : اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة ( فقال اقتلوه ) ونقل ميرك عن [ ص: 200 ] العسقلاني أنه وقع عند الدارقطني من رواية شبابة بن سوار عن مالك في هذا الحديث من رأى منكم ابن خطل فليقتله ، ومن رواية زيد بن الحباب عن مالك بهذا الإسناد ، كان ابن خطل يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعر انتهى .

يعني فكان ذلك سببا لإهدار دمه ، وقيل : سببه أنه صلى الله عليه وسلم بعثه مصدقا وبعث معه رجلا من الأنصار ، وكان معه مولى له يخدمه ، وكان مسلما فنزل منزلا ، وأمر مولاه أن يذبح تيسا ويصنع له طعاما ، ونام فاستيقظ ولم يصنع له شيئا فعدا عليه فقتله ، ثم ارتد مشركا نعوذ بالله من سوء الخاتمة ، ثم توجه الأمر على المخاطبين على فرض الكفاية فسقط عنهم بقتل واحد ، واختلف في قاتله ، وأما قول ابن حجر أو على فرض العين فيلزم كلا المبادرة إلى قتله ، ففيه أنه يلزم منه عصيان الباقي بمبادرة قاتله مع أنه لم يحفظ أن كلا من المخاطبين في الحضرة توجهوا إلى مبادرة قتله ، على أنه يلزم منه تخليته صلى الله عليه وسلم وحده ، وأما قول العصام أنه أمر واحدا منهم بقتله لا جمعا ، فهو من قبيل إسناد البعض إلى جمع بينهم كمال ارتباط ; ولهذا أقدم بقتله سعيد بن حريث وحده على ما ذكره أهل السير ، فغير صحيح لما ذكره القسطلاني في المواهب من أنه روى ابن أبي شيبة من طريق أبي عثمان النهدي أن أبا برزة الأسلمي قتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة ، وإسناده صحيح مع إرساله ، وهو أصح ما ورد في تعيين قاتله ، وبه جزم جماعة من أهل أخبار السير وتحمل بقية الروايات على أنهم ابتدروا قتله ، فكان المباشر له منهم أبا برزة ، ويحتمل أن يكون غيره شاركه فقد جزم ابن هشام في السيرة بأن سعيد بن حريث وأبا برزة الأسلمي اشتركا في قتله ، ولا ينافيه ما في رواية أنه استبق إليه سعيد بن حريث ، وعمار بن ياسر ، فسبق سعيد عمارا وكان أشد الرجلين فقتله الحديث . قال ميرك : وحكى الواقدي فيه أقوالا منها أن قاتله شريك بن عبدة العجلاني ، والراجح أنه أبو برزة ، وقيل : قتله الزبير والله أعلم .

وروى الحاكم من طريق أبي معشر عن يوسف بن يعقوب عن السائب بن يزيد قال : وأخذ عبد الله بن خطل من تحت أستار الكعبة ، فقتل بين المقام وزمزم ، قال ميرك : ورجاله ثقاة ، إلا أن في أبي معشر مقالا ، قال : واختلف في قاتله ، فقيل : سعيد بن زيد ، رواه الحاكم ، وقيل : سعد بن أبي وقاص ، رواه البزار والبيهقي ، وقيل : الزبير بن العوام ، رواه الدارقطني والحاكم والبزار والبيهقي في الدلائل ، وقيل : عمار بن ياسر رواه الحاكم ، وقال البلاذري : أثبت الأقوال أن الذي باشر قتله منهم أبو برزة ، ضرب عنقه بين الركن والمقام .

قال ابن حجر : وليس في الحديث حجة لتحتم قتل سابه صلى الله عليه وسلم الذي قال به مالك وجماعة من أصحابنا ، بل نقل بعضهم فيه الإجماع إلا لو ثبت أنه تلفظ بالإسلام فقتل بعد ذلك ، وأما إذا لم يثبت فلا حجة فيه على أنه لو ثبت لم يكن فيه حجة لاحتمال أنه صلى الله عليه وسلم قتله قصاصا بذلك المسلم الذي قتله ، فهي واقعة حال فعلية محتملة ويؤيده ما قلته أن ابن أبي سرح كان ممن نص صلى الله عليه وسلم على قتله ، لمشابهته لابن خطل فيما مر عنه لما أسلم قبل منه صلى الله عليه وسلم الإسلام [ ص: 201 ] ولم يقتله انتهى . والظاهر أن ابن خطل ارتد ثم في حال ارتداده صدر عنه ما صدر ، فليس من باب المنازع فيه ، وهو الذي يحصل له الارتداد بسبه صلى الله عليه وسلم .

واختلف في استتابته وقبول توبته ، والظاهر أن توبته بشرائطها مقبولة عند الله ، وإنما يقتل حدا أو سياسة قال ابن حجر : وفيه حجة لحل إقامة الحد والقصاص في المسجد حيث لا ينجسه انتهى . وهو غريب من وجهين أحدهما : أن قتله لا يسمى حدا ولا قصاصا ; لأنه كان حربيا ، وثانيهما : أن قتله لا يتصور من غير أن يتنجس المسجد ، ثم أطال بما لا طائل تحته ; ولذا تركنا بحثه قال الحنفي : مع أنه حنفي يعلم منه أن الحرم لا يمنع من إقامة الحدود على من جنى خارجه والتجأ إليه ، وقيل : إنما جاز ذلك له في تلك الساعة انتهى . وفساده ظاهر ; لأن المسألة مفروضة عندنا في من جنى خارج الحرم من المسلمين ثم التجأ فإنه لا يقتص منه ، بل لا يطعم ولا يشرب حتى يضطر إلى الخروج منه ، ثم يقتص ومكة حينئذ كانت دار حرب ، وابن خطل مرتد التحق بالمشركين فوقعت المصالحة بقتل أربعة منهم على القول بأن مكة لم تفتح عنوة .

وأما على الصحيح أن فتحها كان عنوة ، فلا إشكال فيه .

التالي السابق


الخدمات العلمية