الفصل الأول : في
حكم عقد قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - من وقت نبوته
اعلم - منحنا الله ، وإياك توفيقه - ، أن ما تعلق منه بطريق التوحيد ، والعلم بالله ، وصفاته ، والإيمان به ، وبما أوحي إليه فعلى غاية المعرفة ، ووضوح العلم ، واليقين ، والانتفاء عن الجهل بشيء من ذلك ، أو الشك أو الريب فيه ، والعصمة من كل ما يضاد المعرفة بذلك واليقين .
هذا ما وقع إجماع المسلمين عليه ، ولا يصح بالبراهين الواضحة أن يكون في عقود الأنبياء سواه ، ولا يعترض على هذا بقول
إبراهيم - عليه السلام - .
قال بلى ولكن ليطمئن قلبي إذ لم يشك
إبراهيم في إخبار الله - تعالى - له بإحياء الموتى ، ولكن أراد طمأنينة القلب ، وترك المنازعة لمشاهدة الإحياء ، فحصل له العلم الأول بوقوعه ، وأراد العلم الثاني بكيفيته ، ومشاهدته .
الوجه الثاني : أن
إبراهيم - عليه السلام - إنما أراد اختبار منزلته عند ربه ، وعلم إجابته دعوته بسؤال ذلك من ربه ، ويكون قوله - تعالى - :
أولم تؤمن [ البقرة : 260 ] ، أي تصدق بمنزلتك مني ، وخلتك ، واصطفائك ؟ .
الوجه الثالث : أنه سأل زيادة يقين ، وقوة طمأنينة ، وإن لم يكن في الأول شك ، إذ العلوم الضرورية والنظرية قد تتفاضل في قوتها ، وطريان الشكوك على الضروريات ممتنع ، ومجوز في النظريات ، فأراد الانتقال من النظر ، والخبر إلى المشاهدة ، والترقي من علم اليقين إلى عين
[ ص: 460 ] اليقين ، فليس الخبر كالمعاينة ، ولهذا قال
nindex.php?page=showalam&ids=16065سهل بن عبد الله : سأل كشف غطاء العيان ليزداد بنور اليقين تمكنا في حاله .
الوجه الرابع : أنه لما احتج على المشركين بأن ربه يحيي ، ويميت طلب ذلك من ربه ، ليصح احتجاجه عيانا .
الوجه الخامس : قول بعضهم : هو سؤال على طريق الأدب ، والمراد : أقدرني على إحياء الموتى ، وقوله :
ليطمئن قلبي عن هذه الأمنية .
الوجه السادس : أنه أرى من نفسه الشك ، وما شك ، لكن ليجاوب فيزداد قربه .
وقول نبينا :
nindex.php?page=hadith&LINKID=989809نحن أحق بالشك من إبراهيم نفي لأن يكون
إبراهيم شك ، وإبعاد للخواطر الضعيفة أن تظن هذا
بإبراهيم ، أي نحن موقنون بالبعث ، وإحياء الله الموتى ، فلو شك
إبراهيم لكنا أولى بالشك منه ، إما على طريق الأدب ، أو أن يريد أمته الذين يجوز عليهم الشك ، أو على طريق التواضع ، والإشفاق إن حملت قصة
إبراهيم على اختبار حاله ، أو زيادة يقينه .
فإن قلت : فما معنى قوله :
فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك [ يونس : 94 ] الآيتين .
فاحذر ثبت الله قلبك أن يخطر ببالك ما ذكره بعض المفسرين عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس أو غيره من إثبات شك النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما أوحي إليه ، وأنه من البشر ، فمثل هذا لا يجوز عليه جملة ، بل قد قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ، وغيره : لم يشك النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يسأل .
ونحوه عن
ابن جبير ،
والحسن .
وحكى
قتادة أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
قال : ما أشك ، ولا أسأل وعامة المفسرين على هذا .
واختلفوا في معنى الآية : فقيل : المراد قل يا
محمد للشاك :
فإن كنت في شك [ يونس : 94 ] الآية . .
قالوا : وفي السورة نفسها ما دل على هذا التأويل قوله :
قل ياأيها الناس إن كنتم في شك من ديني [ يونس : 104 ] الآية . .
وقيل : المراد بالخطاب العرب ، وغير النبي - صلى الله عليه وسلم - ، كما قال :
لئن أشركت ليحبطن عملك [ الزمر : 65 ] الآية . الخطاب له ، والمراد غيره .
ومثله :
فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء [ هود : 109 ] ، ونظيره كثير .
قال
بكر بن العلاء : ألا تراه يقول :
ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله ؟ [ يونس : 95 ] الآية . وهو - صلى الله عليه وسلم - كان المكذب فيما يدعو إليه ، فكيف يكون ممن كذب به ؟ .
[ ص: 461 ] فهذا كله يدل على أن المراد بالخطاب غيره .
ومثل هذه الآية قوله :
الرحمن فاسأل به خبيرا [ الفرقان : 59 ] المأمور هاهنا غير النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ليسأل النبي ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - هو الخبير المسئول ، لا المستخبر السائل .
وقال : إن هذا الشك الذي أمر به غير النبي - صلى الله عليه وسلم - بسؤال الذين يقرءون الكتاب إنما هو فيما قصه الله من أخبار الأمم ، لا فيما دعا إليه من التوحيد ، والشريعة .
ومثل هذا قوله - تعالى - :
واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا [ الزخرف : 45 ] الآية . المراد به المشركون ، والخطاب مواجهة للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، قاله
القتيبي .
وقيل معناه : سلنا عمن أرسلنا من قبلك ، فحذف الخافض ، وتم الكلام ، ثم ابتدأ :
أجعلنا من دون الرحمن [ الزخرف : 45 ] الآية . إلى آخر الآية ، على طريق الإنكار ، أي ما جعلنا ، حكاه
nindex.php?page=showalam&ids=17140مكي .
وقيل : أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يسأل الأنبياء ليلة الإسراء عن ذلك ، فكان أشد يقينا من أن يحتاج إلى السؤال .
فروي أنه قال :
لا أسأل ، قد اكتفيت قاله
ابن زيد .
وقيل : سل أمم من أرسلنا ، هل جاءوهم بغير التوحيد ؟ ، وهو معنى قول
مجاهد ،
والسدي ،
والضحاك ،
وقتادة .
والمراد بهذا ، والذي قبله إعلامه - صلى الله عليه وسلم - بما بعثت به الرسل ، وأنه - تعالى - لم يأذن في عبادة غيره لأحد ، ردا على مشركي العرب ، وغيرهم ، في قولهم : إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى .
وكذلك قوله - تعالى - :
والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين [ الأنعام : 114 ] ، أي في عملهم بأنك رسول الله ، وإن لم يقروا بذلك ، وليس المراد به شكه فيما ذكر في أول الآية .
وقد يكون أيضا على مثل ما تقدم ، أي قل يا
محمد لمن امترى في ذلك : لا تكونن من الممترين ، بدليل قوله أول الآية :
أفغير الله أبتغي حكما [ الأنعام : 114 ] ، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يخاطب بذلك غيره .
وقيل : هو تقرير ، كقوله - تعالى - :
أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله [ المائدة : 116 ] ، وقد علم أنه لم يقل .
وقيل : معناه ما كنت في شك فاسأل تزدد طمأنينة ، وعلما إلى علمك ويقينك .
وقيل : إن كنت تشك فيما شرفناك ، وفضلناك به فسلهم عن صفتك في الكتب ، ونشر فضائلك .
وحكي عن
أبي عبيدة أن المراد : إن كنت في شك من غيرك فيما أنزلنا .
فإن قيل : فما معنى قوله :
حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا [ يوسف : 110 ] على قراءة التخفيف ؟
قلنا : المعنى في ذلك ما قالته
عائشة - رضي الله عنها - : معاذ الله أن تظن ذلك الرسل
[ ص: 462 ] بربها ، وإنما معنى ذلك أن الرسل لما استيأسوا ظنوا أن من وعدهم النصر من أتباعهم كذبوهم ، وعلى هذا أكثر المفسرين .
وقيل : إن الضمير في [ ظنوا ] عائد على الأتباع ، والأمم ، لا على الأنبياء والرسل ، وهو قول
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ،
والنخعي ،
nindex.php?page=showalam&ids=13033وابن جبير ، وجماعة من العلماء .
وبهذا المعنى قرأ
مجاهد [ كذبوا ] بالفتح ، فلا تشغل بالك من شاذ التفسير بسواه مما لا يليق بمنصب العلماء ، فكيف بالأنبياء ؟ ! .
وكذلك ما ورد في حديث السيرة ، ومبتدأ الوحي ، من قوله - صلى الله عليه وسلم -
لخديجة :
nindex.php?page=hadith&LINKID=989811لقد خشيت على نفسي ليس معناه الشك فيما آتاه الله بعد رؤية الملك ، ولكن لعله خشي ألا تحتمل قوته مقاومة الملك ، وأعباء الوحي ، فينخلع قلبه ، أو تزهق نفسه .
وهذا على ما ورد في الصحيح : أنه قاله بعد لقائه الملك ، أو يكون ذلك قبل لقياه ، وإعلام الله له بالنبوة لأول ما عرضت عليه من العجائب ، وسلم عليه الحجر والشجر ، وبدأته المنامات والتباشير ، كما روي في بعض طرق هذا الحديث : أن ذلك كان أولا في المنام ، ثم أري في اليقظة مثل ذلك ، تأنيسا له - عليه السلام - ، لئلا يفجأه الأمر مشاهدة ، ومشافهة ، فلا يحتمله لأول حالة بنية البشرية .
وفي الصحيح عن
عائشة - رضي الله عنها - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=989812أول ما بدئ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحي الرؤيا الصادقة ، قالت : ثم حبب إليه الخلاء ، وقالت : إلى أن جاءه الحق ، وهو في غار حراء . . . الحديث .
وعن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس :
nindex.php?page=hadith&LINKID=989813مكث النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة خمس عشرة سنة يسمع الصوت ، ويرى الضوء سبع سنين ، ولا يرى شيئا ، وثمان سنين يوحى إليه .
وقد روى
nindex.php?page=showalam&ids=12563ابن إسحاق عن بعضهم
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ، وذكر جواره بغار حراء ، قال : فجاءني وأنا نائم فقال : اقرأ ، فقلت ما أقرأ ؟ ، وذكر نحو حديث
عائشة في
[ ص: 463 ] غطه له ، وإقرائه له :
اقرأ باسم ربك الذي خلق [ العلق : 1 ] السورة .
قال :
فانصرف عني ، وهببت من نومي كأنما صورت في قلبي ، ولم يكن أبغض إلي من شاعر أو مجنون .
قلت : لا تحدث عني قريش بهذا أبدا ، لأعمدن إلى حالق من الجبل فلأطرحن نفسي منه ، فلأقتلنها فبينا أنا عامد لذلك إذ سمعت مناديا ينادي من السماء : يا محمد ، أنت رسول الله ، وأنا جبريل ، فرفعت رأسي فإذا جبريل على صورة رجل . . . وذكر الحديث .
فقد بين في هذا أن قوله لما قال ، وقصده لما قصد ، إنما كان قبل لقاء
جبريل - عليهما السلام - ، وقبل إعلام الله - تعالى - له بالنبوة ، وإظهاره واصطفائه له بالرسالة .
ومثله حديث
nindex.php?page=showalam&ids=12171عمرو بن شرحبيل أنه - صلى الله عليه وسلم - قال
لخديجة :
إني إذا خلوت وحدي سمعت نداء ، وقد خشيت ، والله أن يكون هذا لأمر .
ومن رواية
nindex.php?page=showalam&ids=15744حماد بن سلمة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال
لخديجة :
إني لأسمع صوتا ، وأرى ضوءا ، وأخشى أن يكون بي جنون .
وعلى هذا يتأول لو صح قوله في بعض هذه الأحاديث :
إن الأبعد شاعر أو مجنون ، وألفاظا يفهم منها معاني الشك في تصحيح ما رآه ، وأنه كان كله في ابتداء أمره ، وقبل لقاء الملك له ، وإعلام الله أنه رسوله ، فكيف وبعض هذه الألفاظ لا تصح طرقها .
وأما بعد إعلام الله - تعالى - له ، ولقائه الملك فلا يصح فيه ريب ، ولا يجوز عليه شك فيما ألقي إليه .
وقد روى
nindex.php?page=showalam&ids=12563ابن إسحاق عن شيوخه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
كان يرقى بمكة من العين قبل أن ينزل عليه ، فلما نزل عليه القرآن أصابه نحو ما كان يصيبه ، فقالت له nindex.php?page=showalam&ids=10640خديجة : أوجه إليك من يرقيك ؟ قال : أما الآن فلا .
وحديث
nindex.php?page=showalam&ids=10640خديجة ، واختبارها أمر
جبريل بكشف رأسها . [ الحديث ] إنما ذلك في حق
nindex.php?page=showalam&ids=10640خديجة لتتحقق صحة نبوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأن الذي يأتيه ملك ، ويزول الشك عنها ، لا أنها فعلت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وليختبر هو حاله بذلك .
بل قد ورد في حديث
عبد الله بن محمد بن يحيى بن عروة ، عن
هشام ، عن أبيه ، عن
عائشة أن
ورقة أمر
nindex.php?page=showalam&ids=10640خديجة أن تخبر الأمر بذلك .
وفي حديث
إسماعيل بن أبي حكيم أنها قالت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
يا ابن عم ، هل تستطيع أن تخبرني بصاحبك إذا جاءك ؟ قال : نعم ، فلما جاء جبريل أخبرها ، فقالت له : اجلس إلى شقي . . . وذكر الحديث إلى آخره ، وفيه :
قالت : ما هذا [ ص: 464 ] بشيطان هذا الملك يا ابن عم ، فاثبت ، وأبشر ، وآمنت به .
فهذا يدل على أنها مستثبتة بما فعلته لنفسها ، ومستظهرة لإيمانها ، لا للنبي - صلى الله عليه وسلم - .
وقول
معمر في
فترة الوحي :
nindex.php?page=hadith&LINKID=989822فحزن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما بلغنا حزنا غدا منه مرارا كاد يتردى من شواهق الجبال . لا يقدح في هذا الأصل ، لقول
معمر عنه فيما بلغنا ، ولم يسنده ، ولا ذكر رواته ، ولا من حدث به ، ولا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله ، ولا يعرف مثل هذا إلا من جهة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، مع أنه قد يحمل على أنه كان أول الأمر كما ذكرناه ، أو أنه فعل ذلك لما أخرجه من تكذيب من بلغه ، كما قال - تعالى - :
فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا [ الكهف : 6 ] .
ويصحح معنى هذا التأويل حديث رواه
شريك ، عن
محمد بن عبد الله بن عقيل ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=36جابر بن عبد الله أن
المشركين لما اجتمعوا بدار الندوة للتشاور في شأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، واتفق رأيهم على أن يقولوا : إنه ساحر اشتد ذلك عليه ، وتزمل في ثيابه ، وتدثر فيها ، فأتاه جبريل فقال : ياأيها المزمل [ المزمل : 1 ] ياأيها المدثر [ المدثر : 1 ] .
أو خاف أن الفترة لأمر أو سبب منه ، فخشي أن تكون عقوبة من ربه ، ففعل ذلك بنفسه ، ولم يرد بعد شرع بالنهي عن ذلك ، فيعترض به .
ونحو هذا فرار
يونس - عليه السلام - خشية تكذيب قومه له ، لما وعدهم به من العذاب ، وقول الله في
يونس :
فظن أن لن نقدر عليه [ الأنبياء : 87 ] معناه أن لن نضيق عليه .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=17140مكي : طمع في رحمة الله ، وأن لا يضيق عليه مسلكه في خروجه .
وقيل : حسن ظنه بمولاه أنه لا يقضي عليه العقوبة .
وقيل : نقدر عليه ما أصابه .
وقد قرئ : نقدر عليه بالتشديد .
وقيل : نؤاخذه بغضبه ، وذهابه .
وقال
ابن زيد : معناه : أفظن أن لن نقدر عليه ؟ على الاستفهام .
ولا يليق أن يظن بنبي أنه يجهل صفة من صفات ربه .
وكذلك قوله :
إذ ذهب مغاضبا [ الأنبياء : 87 ] الصحيح مغاضبا لقومه لكفرهم ، وهو قول
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ،
والضحاك ، وغيرهما ، لا لربه عز وجل ، إذ مغاضبة الله معاداة له ، ومعاداة الله كفر لا يليق بالمؤمنين ، فكيف بالأنبياء ؟ !
وقيل : مستحييا من قومه أن يسموه بالكذب أو يقتلوه ، كما ورد في الخبر .
وقيل : مغاضبا لبعض الملوك فيما أمره به من التوجه إلى أمر أمره الله به على لسان نبي آخر ، فقال له
يونس : غيري أقوى عليه مني ، فعزم
[ ص: 465 ] عليه فخرج لذلك مغاضبا .
وقد روي عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ، أن إرسال
يونس ، ونبوته إنما كان بعد أن نبذه الحوت ، واستدل من الآية بقوله :
فنبذناه بالعراء وهو سقيم وأنبتنا عليه شجرة من يقطين وأرسلناه إلى مائة ألف [ الصافات : 145 - 147 ] .
ويستدل أيضا بقوله :
ولا تكن كصاحب الحوت [ القلم : 48 ] ، وذكر القصة .
ثم قال :
فاجتباه ربه فجعله من الصالحين [ القلم : 50 ] ، فتكون هذه القصة إذا قبل نبوته .
فإن قيل : فما معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=989824إنه ليغان على قلبي ، فأستغفر الله كل يوم مائة مرة .
وفي طريق :
nindex.php?page=hadith&LINKID=989825في اليوم أكثر من سبعين مرة .
فاحذر أن يقع ببالك أن يكون هذا الغين ، وسوسة أو ريبا ، وقع في قلبه - عليه السلام - ، بل أصل الغين في هذا : ما يتغشى القلب ، ويغطيه ، قاله
أبو عبيد ، وأصله من غين السماء ، وهو إطباق الغيم عليها .
وقال غيره : والغين شيء يغشي القلب ، ولا يغطيه كل التغطية ، كالغيم الرقيق الذي يعرض في الهواء ، فلا يمنع ضوء الشمس .
وكذلك لا يفهم من الحديث أنه يغان على قلبه مائة مرة أو أكثر من سبعين مرة في اليوم ، إذ ليس يقتضيه لفظه الذي ذكرناه ، وهو أكثر الروايات ، وإنما هذا عدد للاستغفار لا للغين ، فيكون المراد بهذا الغين إشارة إلى غفلات قلبه ، وفترات نفسه ، وسهوها عن مداومة الذكر ، ومشاهدة الحق بما كان - صلى الله عليه وسلم - دفع إليه من مقاساة البشر ، وسياسة الأمة ، ومعاناة الأهل ، ومقاومة الولي ، والعدو ، ومصلحة النفس ، وكلفه من أعباء أداء الرسالة ، وحمل الأمانة ، وهو في كل هذا في طاعة ربه ، وعبادة خالقه ، ولكن لما كان - صلى الله عليه وسلم - أرفع الخلق عند الله مكانة ، وأعلاهم درجة ، وأتمهم به معرفة ، وكانت حاله عند خلوص قلبه ، وخلو همته ، وتفرده بربه ، وإقباله بكليته عليه ، ومقامه هنالك أرفع حاليه رأى - صلى الله عليه وسلم - حال فترته عنها ، وشغله بسواها ، غضا من علي حاله ، وخفضا من رفيع مقامه ، فاستغفر الله من ذلك . هذا أولى وجوه الحديث ، وأشهرها .
وإلى معنى ما أشرنا به مال كثير من الناس ، وحام حوله ، فقارب ، ولم يرد .
وقد قربنا غامض معناه ، وكشفنا للمستفيد محياه ، وهو مبني على جواز
الفترات ، والغفلات ، والسهو في غير طريق البلاغ ، على ما سيأتي .
وذهبت طائفة من أرباب القلوب ، ومشيخة المتصوفة ، ممن قال بتنزيه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هذا جملة ، وأجله أن يجوز عليه في حال سهو أو فترة إلى أن معنى الحديث : ما يهم خاطره ، ويغم فكره من أمر أمته - صلى الله عليه وسلم - ، لاهتمامه بهم ، وكثرة شفقته عليهم ، فيستغفر لهم .
قالوا : وقد يكون الغين هنا على قلبه السكينة تتغشاه ، لقوله - تعالى - :
فأنزل الله سكينته عليه [ التوبة : 40 ] ، ويكون استغفاره - صلى الله عليه وسلم - عندها إظهارا للعبودية ، والافتقار .
قال
ابن عطاء : استغفاره
[ ص: 466 ] وفعله هذا تعريف للأمة بحملهم على الاستغفار .
وقال غيره : ويستشعرون الحذر ، ولا يركنون إلى الأمن .
وقد يحتمل أن تكون هذه الإعانة حالة خشية ، وإعظام تغشى قلبه ، فيستغفر حينئذ شكرا لله ، وملازمة لعبوديته ، كما قال في ملازمة العبادة :
nindex.php?page=hadith&LINKID=989491أفلا أكون عبدا شكورا .
وعلى هذه الوجوه الأخيرة يحمل ما روي في بعض طرق هذا الحديث عنه - صلى الله عليه وسلم - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=989826إنه ليغان على قلبي في اليوم أكثر من سبعين مرة ، فأستغفر الله .
فإن قلت : فما معنى قوله - تعالى -
لمحمد - صلى الله عليه وسلم - :
ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين [ الأنعام : 35 ] .
وقوله
لنوح - عليه السلام - :
ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين [ هود : 46 ] ؟ .
فاعلم أنه لا يلتفت في ذلك إلى قول من قال في آية نبينا - صلى الله عليه وسلم - : لا تكونن ممن يجهل أن الله لو شاء لجمعهم على الهدى . وفي آية
نوح : لا تكونن ممن يجهل أن وعد الله حق ، لقوله :
وإن وعدك الحق إذ فيه إثبات الجهل بصفة من صفات الله ، وذلك لا يجوز على الأنبياء .
والمقصود ، وعظهم ألا يتشبهوا في أمورهم بسمات الجاهلين ، كما قال :
إني أعظك . وليس في آية منهما دليل على كونهم على تلك الصفة التي نهاهم عن الكون عليها ، فكيف ؟ ، وآية
نوح قبلها :
ما ليس لك به علم إني أعظك [ هود : 46 ] . فحمل ما بعدها على ما قبلها أولى ، لأن مثل هذا قد يحتاج إلى إذن .
وقد تجوز إباحة السؤال فيه ابتداء ، فنهاه الله أن يسأله عما طوى عنه علمه ، وأكنه من غيبه من السبب الموجب لهلاك ابنه .
ثم أكمل الله - تعالى - نعمته عليه بإعلامه ذلك بقوله :
إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح . [ هود : 46 ] حكى معناه
nindex.php?page=showalam&ids=17140مكي .
كذلك أمر نبينا في الآية الأخرى بالتزام الصبر على إعراض قومه ، ولا يحرج عند ذلك ، فيقارب حال الجاهل بشدة التحسر . حكاه
nindex.php?page=showalam&ids=13428ابن فورك .
وقيل : معنى الخطاب لأمة
محمد ، أي فلا تكونوا من الجاهلين . حكاه
أبو محمد مكي ، وقال : مثله في القرآن كثير .
فبهذا الفضل وجب القول بعصمة الأنبياء منه بعد النبوة قطعا .
فإن قلت : فإذا قررت عصمتهم من هذا ، وأنه لا يجوز عليهم شيء من ذلك فما معنى إذا وعيد الله لنبينا - صلى الله عليه وسلم - على ذلك إن فعله ، وتحذيره منه ، كقوله :
لئن أشركت ليحبطن عملك [ الزمر : 65 ] الآية . .
وقوله - تعالى - :
[ ص: 467 ] ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك [ يونس : 106 ] الآية . .
وقوله - تعالى - :
إذا لأذقناك ضعف الحياة [ الإسراء : 75 ] الآية . .
وقوله :
لأخذنا منه باليمين [ الحاقة : 45 ] .
وقوله :
وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله [ الأنعام : 116 ] .
وقوله :
فإن يشأ الله يختم على قلبك [ الشورى : 24 ] .
وقوله :
وإن لم تفعل فما بلغت رسالته [ المائدة : 67 ] .
وقوله :
اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين [ الأحزاب : 1 ] .
فاعلم وفقنا الله ، وإياك أنه - صلى الله عليه وسلم - لا يصح ، ولا يجوز عليه ، ألا يبلغ وأن يخالف أمر ربه ، ولا أن يشرك به ، ولا يتقول على الله ما لا يحب ، أو يفتري عليه ، أو يضل أو يختم على قلبه ، أو يطيع الكافرين ، لكن يسر أمره بالمكاشفة والبيان في البلاغ للمخالفين ، وأن إبلاغه إن لم يكن بهذه السبيل فكأنه ما بلغ .
وطيب نفسه ، وقوى قلبه بقوله :
والله يعصمك من الناس [ المائدة : 67 ] ، كما قال
لموسى ،
وهارون :
لا تخافا [ طه : 46 ] ، لتشتد بصائرهم في الإبلاغ ، وإظهار دين الله ، ويذهب عنهم خوف العدو المضعف للنفس .
وأما قوله - تعالى - :
ولو تقول علينا بعض الأقاويل [ الحاقة : 44 ] الآية . .
وقوله :
إذا لأذقناك ضعف الحياة [ الإسراء : 75 ] فمعناه أن هذا جزاء من فعل هذا وجزاؤك لو كنت ممن يفعله ، وهو لا يفعله .
وكذلك قوله :
وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله [ الأنعام : 116 ] ، فالمراد غيره ، كما قال :
إن تطيعوا الذين كفروا [ آل عمران : 149 ] الآية . .
وقوله :
فإن يشأ الله يختم على قلبك ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته إنه عليم بذات الصدور [ الشورى : 24 ] ، و
لئن أشركت ليحبطن عملك [ الزمر : 65 ] ، وما أشبهه ، فالمراد غيره ، وأن هذه حال من أشرك ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يجوز عليه هذا .
وقوله :
اتق الله ولا تطع الكافرين [ الأحزاب : 1 ] فليس فيه أنه أطاعهم ، والله ينهاه عما يشاء ، ويأمره بما يشاء ، كما قال :
ولا تطرد الذين يدعون ربهم [ الأنعام : 52 ] الآية . .
وما كان طردهم - صلى الله عليه وسلم - ، ولا كان من الظالمين .