الفصل الخامس عشر : فائدة ما مر من الفصول في العصمة
قد استبان لك أيها الناظر مما قررناه ، ما هو
الحق من عصمته - صلى الله عليه وسلم - عن الجهل بالله ، وصفاته أو كونه على حالة تنافي العلم بشيء من ذلك كله جملة بعد النبوة عقلا وإجماعا وقبلها سمعا ونقلا ، ولا بشيء مما قررناه من أمور الشرع ، وأداه عن ربه من الوحي قطعا وعقلا وشرعا ، وعصمته عن الكذب ، وخلف القول منذ نبأه الله ، وأرسله قصدا أو غير قصد ، واستحالة ذلك عليه شرعا وإجماعا ونظرا وبرهانا ، وتنزيهه عنه قبل النبوة قطعا ، وتنزيهه عن الكبائر إجماعا ، وعن الصغائر تحقيقا ، وعن استدامة السهو ، والغفلة ، واستمرار الغلط ، والنسيان عليه فيما شرعه للأمة ، وعصمته في كل حالاته ، من رضى ، وغضب وجد ومزح ، فيجب عليك أن تتلقاه باليمين ، وتشد عليه يد الضنين ، وتقدر هذه الفصول حق قدرها ، وتعلم عظيم فائدتها ، وخطرها ، فإن من يجهل ما يجب للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، أو يجوز له ، أو يستحيل عليه ، ولا يعرف صور أحكامه ، لا يأمن أن يعتقد في بعضها خلاف ما هي عليه ، ولا ينزهه عما لا يجب أن يضاف إليه ، فيهلك من حيث لا يدري ، ويسقط في هوة الدرك الأسفل من النار إذ ظن الباطل به ، واعتقاد ما لا يجوز عليه يحل بصاحبه دار البوار .
ولهذا ما احتاط - عليه السلام - على الرجلين اللذين رأياه ليلا ، وهو معتكف في المسجد مع
صفية ، فقال لهما :
إنها صفية . ثم قال لهما : إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا فتهلكا .
هذه أكرمك الله إحدى فوائد ما تكلمنا عليه في هذه الفصول ، ولعل جاهلا لا يعلم بجهله إذا سمع شيئا منها يرى أن الكلام فيها جملة من فضول العلم ، وأن السكوت أولى . وقد استبان لك أنه متعين للفائدة التي ذكرناها .
وفائدة ثانية يضطر إليها في أصول الفقه ، ويبتنى عليها مسائل لا تنعد من الفقه ، ويتخلص بها من تشعيب مختلفي الفقهاء في عدة منها ، وهي
الحكم في أقوال [ ص: 509 ] النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأفعاله ، وهو باب عظيم ، وأصل كبير من أصول الفقه ، ولا بد من بنائه على صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - في أخباره ، وبلاغه ، وأنه لا يجوز عليه السهو فيه ، وعصمته من المخالفة في أفعاله عمدا ، وبحسب اختلافهم في وقوع الصغائر ، وقع خلاف في امتثال الفعل ، بسط بيانه في كتب ذلك العلم فلا نطول به .
وفائدة ثالثة يحتاج إليها الحاكم والمفتي فيمن أضاف إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئا من هذه الأمور ، ووصفه بها ، فمن لم يعرف ما يجوز ، وما يمتنع عليه ، وما وقع الإجماع فيه والخلاف ، كيف يصمم في الفتيا في ذلك ، ومن أين يدري ؟ هل ما قاله فيه نقض أو مدح ، فإما أن يجترئ على سفك دم مسلم حرام ، أو يسقط حقا ، أو يضيع حرمة للنبي - صلى الله عليه وسلم - .
وبسبيل هذا ما قد اختلف أرباب الأصول وأئمة العلماء والمحققون في عصمة الملائكة .