مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل منزلة الاستقامة

ومن منازل : ( إياك نعبد وإياك نستعين ) منزلة الاستقامة .

قال الله تعالى : ( إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون ) . وقال : ( إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون ) . [ ص: 104 ] وقال لرسوله صلى الله عليه وسلم : ( فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير ) .

فبين أن الاستقامة ضد الطغيان . وهو مجاوزة الحدود في كل شيء .

وقال تعالى : ( قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه ) . وقال تعالى : ( وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا لنفتنهم فيه ) .

سئل صديق الأمة وأعظمها استقامة - أبو بكر الصديق رضي الله عنه - عن الاستقامة ؟ فقال : أن لا تشرك بالله شيئا . يريد الاستقامة على محض التوحيد .

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : الاستقامة : أن تستقيم على الأمر والنهي . ولا تروغ روغان الثعالب .

وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه : استقاموا : أخلصوا العمل لله .

وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، و ابن عباس رضي الله عنهما : استقاموا : أدوا الفرائض .

وقال الحسن : استقاموا على أمر الله فعملوا بطاعته ، واجتنبوا معصيته .

وقال مجاهد : استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله حتى لحقوا بالله .

وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - يقول : استقاموا على محبته وعبوديته ، فلم يلتفتوا عنه يمنة ولا يسرة .

وفي صحيح مسلم عن سفيان بن عبد الله رضي الله عنه قال : قلت : يا رسول الله [ ص: 105 ] قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا غيرك . قال : قل آمنت بالله . ثم استقم .

وفيه عن ثوبان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : استقيموا ولن تحصوا . واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة . ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن .

والمطلوب من العبد الاستقامة . وهي السداد . فإن لم يقدر عليها فالمقاربة . فإن نزل عنها : فالتفريط والإضاعة . كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : سددوا وقاربوا . واعلموا أنه لن ينجو أحد منكم بعمله . قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : ولا أنا ، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل .

فجمع في هذا الحديث مقامات الدين كلها . فأمر بالاستقامة ، وهي السداد والإصابة في النيات والأقوال والأعمال .

وأخبر في حديث ثوبان : أنهم لا يطيقونها . فنقلهم إلى المقاربة . وهي أن يقربوا من [ ص: 106 ] الاستقامة بحسب طاقتهم . كالذي يرمي إلى الغرض ، فإن لم يصبه يقاربه . ومع هذا فأخبرهم أن الاستقامة والمقاربة لا تنجي يوم القيامة . فلا يركن أحد إلى عمله . ولا يعجب به . ولا يرى أن نجاته به ، بل إنما نجاته برحمة الله وعفوه وفضله .

فالاستقامة كلمة جامعة ، آخذة بمجامع الدين . وهي القيام بين يدي الله على حقيقة الصدق ، والوفاء بالعهد .

والاستقامة تتعلق بالأقوال ، والأفعال ، والأحوال ، والنيات . فالاستقامة فيها : وقوعها لله ، وبالله ، وعلى أمر الله .

قال بعض العارفين : كن صاحب الاستقامة ، لا طالب الكرامة . فإن نفسك متحركة في طلب الكرامة . وربك يطالبك بالاستقامة .

وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله تعالى روحه - يقول : أعظم الكرامة لزوم الاستقامة .

التالي السابق


الخدمات العلمية