فصل
قال : الدرجة الثانية :
حياء يتولد من النظر في علم القرب . فيدعوه إلى ركوب المحبة . ويربطه بروح الأنس . ويكره إليه ملابسة الخلق .
النظر في علم القرب : تحقق القلب بالمعية الخاصة مع الله . فإن المعية نوعان : عامة . وهي : معية العلم والإحاطة . كقوله تعالى :
وهو معكم أين ما كنتم وقوله :
ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا .
وخاصة : وهي معية القرب ، كقوله تعالى :
إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون وقوله :
إن الله مع الصابرين وقوله :
وإن الله لمع المحسنين .
فهذه معية قرب . تتضمن الموالاة ، والنصر ، والحفظ . وكلا المعنيين مصاحبة منه للعبد . لكن هذه مصاحبة اطلاع وإحاطة . وهذه مصاحبة موالاة ونصر وإعانة . ف " مع " في لغة العرب تفيد الصحبة اللائقة ، لا تشعر بامتزاج ولا اختلاط ، ولا مجاورة ، ولا مجانبة . فمن ظن منها شيئا من هذا فمن سوء فهمه أتي .
وأما القرب : فلا يقع القرآن إلا خاصا . وهو نوعان : قربه من داعيه بالإجابة . وقربه من عابده بالإثابة .
[ ص: 255 ] فالأول : كقوله تعالى :
وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان . ولهذا نزلت جوابا للصحابة رضي الله عنهم . وقد سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم : ربنا قريب فنناجيه ؟ أم بعيد فنناديه ؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية .
والثاني : قوله صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=980292أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد . وأقرب ما يكون الرب من عبده في جوف الليل . فهذا قربه من أهل طاعته .
وفي الصحيح : عن
أبي موسى رضي الله عنه . قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=980462كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر . فارتفعت أصواتنا بالتكبير . فقال : يا أيها الناس ، أربعوا على أنفسكم . إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا . إن الذي تدعونه سميع قريب . أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته .
فهذا قرب خاص بالداعي دعاء العبادة والثناء والحمد . وهذا القرب لا ينافي كمال مباينة الرب لخلقه ، واستواءه على عرشه . بل يجامعه ويلازمه . فإنه ليس كقرب الأجسام بعضها من بعض . تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا . ولكنه نوع آخر . والعبد في الشاهد يجد روحه قريبة جدا من محبوب بينه وبينه مفاوز تتقطع فيها أعناق المطي . ويجده أقرب إليه من جليسه . كما قيل .
ألا رب من يدنو . ويزعم أنه يحبك . والنائي أحب وأقرب
وأهل السنة أولياء رسول الله صلى الله عليه وسلم وورثته وأحباؤه ، الذين هو عندهم أولى بهم من أنفسهم . وأحب إليهم منها : يجدون نفوسهم أقرب إليه . وهم في الأقطار النائية عنه من جيران حجرته في
المدينة ، والمحبون المشتاقون
للكعبة والبيت الحرام يجدون قلوبهم وأرواحهم أقرب إليها من جيرانها ومن حولها . هذا مع عدم تأتي القرب منها . فكيف بمن يقرب من خلقه كيف يشاء ، وهو مستو على عرشه . وأهل الذوق لا يلتفتون في ذلك إلى شبهة معطل بعيد من الله ، خلي من محبته ومعرفته .
والقصد : أن هذا القرب يدعو صاحبه إلى ركوب المحبة . وكلما ازداد حبا ازداد قربا . فالمحبة بين قربين : قرب قبلها ، وقرب بعدها ، وبين معرفتين : معرفة قبلها حملت عليها ، ودعت إليها ، ودلت عليها . ومعرفة بعدها . هي من نتائجها وآثارها .
[ ص: 256 ] وأما ربطه بروح الأنس : فهو تعلق قلبه بروح الأنس بالله ، تعلقا لازما لا يفارقه . بل يجعل بين القلب والأنس رابطة لازمة . ولا ريب أن هذا يكره إليه ملابسة الخلق . بل يجد الوحشة في ملابستهم بقدر أنسه بربه ، وقرة عينه بحبه وقربه منه . فإنه ليس مع الله غيره . فإن لابسهم لابسهم برسمه دون سره وروحه وقلبه . فقلبه وروحه في ملأ ، وبدنه ورسمه في ملأ .