قال :
وهو على ثلاث درجات . الدرجة الأولى : صدق القصد . وبه يصح الدخول في هذا الشأن . ويتلافى به كل تفريط . ويتدارك به كل فائت . ويعمر كل خراب . وعلامة هذا الصادق : أن لا يتحمل داعية تدعو إلى نقض عهد . ولا يصبر على صحبة ضد . ولا يقعد عن الجد بحال .
يعني بصدق القصد : كمال العزم ، وقوة الإرادة ، بأن يكون في القلب داعية صادقة إلى السلوك ، وميل شديد يقهر السر على صحة التوجه . فهو طلب لا يمازجه رياء ولا فتور . ولا يكون فيه قسمة بحال . ولا يصح الدخول في شأن السفر إلى الله ، والاستعداد للقائه إلا به .
ويتلافى به كل تفريط . فإنه حامل على كل سبب ينال به الوصول ، وقطع كل سبب يحول بينه وبينه . فلا يترك فرصة تفوته . وما فاته من الفرص السابقة تداركها بحسب الإمكان . فيصلح من قلبه ما مزقته يد الغفلة والشهوة . ويعمر منه ما خربته
[ ص: 268 ] يد البطالة . ويوقد فيه ما أطفأته أهوية النفس . ويلم منه ما شعثته يد التفريط والإضاعة . ويسترد منه ما نهبته أكف اللصوص والسراق . ويزرع منه ما وجده بورا من أراضيه . ويقلع ما وجده شوكا وشبرقا في نواحيه . ويستفرغ منه ما ملأته مواد الأخلاط الرديئة الفاسدة المترامية به إلى الهلاك والعطب . ويداوي منه الجراحات التي أصابته من عبرات الرياء . ويغسل منه الأوساخ والحوبات التي تراكمت عليه على تقادم الأوقات ، حتى لو اطلع عليه لأحزنه سواده ووسخه الذي صار دباغا له ، فيطهره بالماء البارد من ينابيع الصدق الخالصة من جميع الكدورات ، قبل أن يكون طهوره بالجحيم والحميم . فإنه لا يجاور الرحمن قلب دنس بأوساخ الشهوات والرياء أبدا . ولا بد من طهور . فاللبيب يؤثر أسهل الطهورين وأنفعهما . والله المستعان .
وقوله : وعلامة هذا الصادق : أن لا يتحمل داعية تدعو إلى نقض عهد .
يعني أن
الصادق حقيقة : هو الذي قد انجذبت قوى روحه كلها إلى إرادة الله وطلبه ، والسير إليه ، والاستعداد للقائه . ومن تكون هذه حاله : لا يحتمل سببا يدعوه إلى نقض عهده مع الله بوجه .
وقوله : ولا يصبر على صحبة ضد .
الضد عند القوم : هم أهل الغفلة ، وقطاع طريق القلب إلى الله . وأضر شيء على الصادق : صحبتهم ، بل لا تصبر نفسه على ذلك أبدا ، إلا مع ضرورة . وتكون صحبتهم له في تلك الحال بقالبه وشبحه ، دون قلبه وروحه . فإن هذا لما استحكمت الغفلة عليه كما استحكم الصدق في الصادق : أحست روحه بالأجنبية التي بينه وبينهم بالمضادة . فاشتدت النفرة . وقوي الهرب . وبحسب هذه الأجنبية وإحساس الصادق بها : تكون نفرته وهربه عن الأضداد . فإن هذا الضد إن نطق أحس قلب الصادق : أنه نطق بلسان الغفلة ، والرياء والكبر ، وطلب الجاه . ولو كان ذاكرا أو قارئا ، أو مصليا أو حاجا ، أو غير ذلك . فنفر قلبه منه . وإن صمت أحس قلبه : أنه صمت على غير حضور وجمعية على الله ، وإقبال بالقلب عليه ، وعكوف السر عليه . فينفر منه أيضا . فإن قلب الصادق قوي الإحساس . فيجد الغيرية والأجنبية من الضد . ويشم القلب القلب كما يشم الرائحة الخبيثة . فيزوي وجهه لذلك . ويعتريه عبوس . فلا يأنس به إلا تكلفا . ولا يصاحبه إلا ضرورة . فيأخذ من صحبته قدر الحاجة ، كصحبة من يشتري منه ، أو يحتاج إليه في مصالحه ، كالزوجة والخادم ونحوه .
قوله : ولا يقعد عن الجد بحال .
يعني أنه لما كان صادقا في طلبه مستجمع القوة : لم يقعد به عزمه عن الجد في جميع
[ ص: 269 ] أحواله . فلا تراه إلا جادا . وأمره كله جد .