قال : وهي على ثلاث درجات . الدرجة الأولى :
أن تعطي كل شيء حقه ولا تعديه حده ، ولا تعجله عن وقته ، ولا تؤخره عنه .
[ ص: 449 ] لما كانت الأشياء لها مراتب وحقوق ، تقتضيها شرعا وقدرا . ولها حدود ونهايات تصل إليها ولا تتعداها . ولها أوقات لا تتقدم عنها ولا تتأخر - كانت الحكمة مراعاة هذه الجهات الثلاث . بأن تعطى كل مرتبة حقها الذي أحقه الله بشرعه وقدره . ولا تتعدى بها حدها . فتكون متعديا مخالفا للحكمة . ولا تطلب تعجيلها عن وقتها فتخالف الحكمة . ولا تؤخرها عنه فتفوتها .
وهذا حكم عام لجميع الأسباب مع مسبباتها شرعا وقدرا . فإضاعتها تعطيل للحكمة بمنزلة إضاعة البذر وسقي الأرض .
وتعدي الحق : كسقيها فوق حاجتها ، بحيث يغرق البذر والزرع ويفسد .
وتعجيلها عن وقتها : كحصاده قبل إدراكه وكماله .
وكذلك ترك الغذاء والشراب واللباس : إخلال بالحكمة ، وتعدي الحد المحتاج إليه ، خروج عنها أيضا . وتعجيل ذلك قبل وقته : إخلال بها . وتأخيره عن وقته : إخلال بها .
فالحكمة إذا : فعل ما ينبغي ، على الوجه الذي ينبغي ، في الوقت الذي ينبغي .
والله تعالى أورث الحكمة
آدم وبنيه . فالرجل الكامل : من له إرث كامل من أبيه ، ونصف الرجل - كالمرأة - له نصف ميراث ، والتفاوت في ذلك لا يحصيه إلا الله تعالى .
وأكمل الخلق في هذا : الرسل صلوات الله وسلامه عليهم . وأكملهم أولو العزم . وأكملهم
محمد صلى الله عليه وسلم . ولهذا امتن الله سبحانه وتعالى عليه ، وعلى أمته بما آتاهم من الحكمة . كما قال تعالى :
وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم . وقال تعالى :
كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون .
فكل نظام الوجود مرتبط بهذه الصفة . وكل خلل في الوجود ، وفي العبد فسببه : الإخلال بها . فأكمل الناس : أوفرهم نصيبا . وأنقصهم وأبعدهم عن الكمال : أقلهم منها ميراثا .
ولها ثلاثة
أركان : العلم ، والحلم ، والأناة .
وآفاتها وأضدادها : الجهل ، والطيش ، والعجلة .
[ ص: 450 ] فلا حكمة لجاهل ، ولا طائش ، ولا عجول ، والله أعلم .