مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل

قال : الدرجة الثالثة : طمأنينة شهود الحضرة إلى اللطف . وطمأنينة الجمع إلى البقاء . وطمأنينة المقام إلى نور الأزل .

[ ص: 485 ] هذه الدرجة الثالثة تتعلق بالفناء والبقاء ، فالواصل إلى شهود الحضرة : مطمئن إلى لطف الله . وحضرة الجمع يريدون بها الشهود الذاتي .

فإن الشهود عندهم مراتب بحسب تعلقه . فشهود الأفعال : أول مراتب الشهود . ثم فوقه : شهود الأسماء والصفات . ثم فوقه : شهود الذات الجامعة إلى الأفعال والأسماء والصفات . والتجلي عند القوم : بحسب هذه الشهود الثلاثة .

فأصحاب تجلي الأفعال : مشهدهم توحيد الربوبية . وأصحاب تجلي الأسماء والصفات : مشهدهم توحيد الإلهية : وأصحاب تجلي الذات : يغنيهم به عنهم .

وقد يعرض لبعضهم بحسب قوة الوارد وضعف المحل عجز عن القيام والحركة . فربما عطل بعض الفروض ، وهذا له حكم أمثاله من أهل العجز والتفريط ، والكاملون منهم قد يفترون في تلك الحال عن الأعمال الشاقة . ويقتصرون على الفرائض وسننها وحقوقها . ولا يقعد بهم ذلك الشهود والتجلي عنها . ولا يؤثرون عليه شيئا من النوافل والحركات التي لم تعرض عليهم ألبتة . وذلك في طريقهم رجوع وانقطاع .

وأكمل من هؤلاء : من يصحبه ذلك في حال حركاته ونوافله . فلا يعطل ذرة من أوراده . والله سبحانه قد فاوت بين قوى القلوب أشد من تفاوت قوى الأبدان . وفي كل شيء له آية . وصاحب هذا المقام آية من آيات الله لأولي الألباب والبصائر .

والمقصود : أنه لولا طمأنينته إلى لطف الله لمحقه شهود الحضرة وأفناه جملة . فقد خر موسى صعقا لما تجلى ربه للجبل . وتدكدك الجبل وساخ في الأرض من تجليه سبحانه .

هذا ولا يتوهم متوهم أن الحاصل في الدنيا للبشر كذلك ، ولا قريب منه أبدا . وإنما هي المعارف ، واستيلاء مقام الإحسان على القلب فقط .

وإياك وترهات القوم ، وخيالاتهم ورعوناتهم ، وإن سموك محجوبا ، فقل : اللهم زدني من هذا الحجاب الذي ما وراءه إلا الخيالات والترهات والشطحات . فكليم الرحمن وحده مع هذا لم تتجل الذات له ، وأراه ربه تعالى أنه لا يثبت لتجلي ذاته ، لما أشهده من حال الجبل ، وخر الكليم صعقا مغشيا عليه ، لما رأى ما رأى من حال الجبل عند تجلي ربه له . ولم يكن تجليا مطلقا . قال الضحاك : أظهر الله من نور الحجب مثل منخر ثور . وقال عبد الله بن سلام رضي الله عنه و كعب الأحبار : ما تجلى من عظمة الله للجبل إلا مثل سم الخياط حتى صار دكا .

وقال السدي : ما تجلى إلا قدر الخنصر .

[ ص: 486 ] وفي مستدرك الحاكم من حديث ثابت البناني عن أنس رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية ، وقال : هكذا - ووضع الإبهام على المفصل الأعلى من الخنصر - فساخ الجبل . وإسناده على شرط مسلم . ولما حدث به حميد عن ثابت استعظمه بعض أصحابه وقال : تحدث بهذا ؟ فضرب بيده في صدره . وقال : يحدث به ثابت عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتنكره أنت ، ولا أحدث به ؟

فإذا شهد لك المخدوعون بأنك محجوب عن ترهاتهم وخيالاتهم ، فتلك الشهادة لك بالاستقامة . فلا تستوحش منها . وبالله التوفيق . وهو المستعان .

التالي السابق


الخدمات العلمية