فصل
قال :
الدرجة الثانية : همة تورث أنفة من المبالاة بالعلل ، والنزول على العمل والثقة بالأمل .
العلل هاهنا : هي علل الأعمال من رؤيتها ، أو رؤية ثمراتها وإرادتها . ونحو ذلك . فإنها عندهم علل .
فصاحب هذه الهمة : يأنف على همته ، وقلبه من أن يبالي بالعلل . فإن همته فوق ذلك . فمبالاته بها ، وفكرته فيها : نزول من الهمة .
وعدم هذه المبالاة : إما لأن العلل لم تحصل له ؛ لأن علو همته حال بينه وبينها . فلا يبالي بما لم يحصل له . وإما لأن همته وسعت مطلوبه ، وعلوه يأتي على تلك العلل ، ويستأصلها . فإنه إذا علق همته بما هو أعلى منها تضمنتها الهمة العالية . فاندرج حكمها في حكم الهمة العالية . وهذا موضع غريب عزيز جدا . وما أدري قصده الشيخ أو لا ؟
وأما أنفته من النزول على العمل : فكلام يحتاج إلى تقييد وتبيين . وهو أن العالي الهمة مطلبه فوق مطلب العمال والعباد . وأعلى منه . فهو يأنف أن ينزل من سماء مطلبه العالي ، إلى مجرد العمل والعبادة ، دون السفر بالقلب إلى الله ، ليحصل له ويفوز به . فإنه طالب لربه تعالى طلبا تاما بكل معنى واعتبار في عمله ، وعبادته ومناجاته ، ونومه ويقظته ، وحركته وسكونه ، وعزلته وخلطته ، وسائر أحواله . فقد انصبغ قلبه بالتوجه إلى الله تعالى أيما صبغة .
وهذا الأمر إنما يكون لأهل المحبة الصادقة . فهم لا يقنعون بمجرد رسوم الأعمال ، ولا بالاقتصار على الطلب حال العمل فقط .
وأما أنفته من الثقة بالأمل : فإن الثقة توجب الفتور والتواني . وصاحب هذه الهمة : ليس من أهل ذلك ، كيف ؟ وهو طائر لا سائر . والله أعلم .