فصل منزلة المحبة
ومن منازل "
إياك نعبد وإياك نستعين "
منزلة المحبة
وهي المنزلة التي فيها تنافس المتنافسون . وإليها شخص العاملون . وإلى علمها شمر السابقون . وعليها تفانى المحبون . وبروح نسيمها تروح العابدون . فهي قوت القلوب ، وغذاء الأرواح ، وقرة العيون . وهي الحياة التي من حرمها فهو من جملة الأموات . والنور الذي من فقده فهو في بحار الظلمات . والشفاء الذي من عدمه حلت بقلبه جميع الأسقام . واللذة التي من لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام .
وهي روح
[ ص: 9 ] الإيمان والأعمال ، والمقامات والأحوال التي متى خلت منها فهي كالجسد الذي لا روح فيه . تحمل أثقال السائرين إلى بلاد لم يكونوا إلا بشق الأنفس بالغيها . وتوصلهم إلى منازل لم يكونوا بدونها أبدا واصليها . وتبوؤهم من مقاعد الصدق مقامات لم يكونوا لولاها داخليها . وهي مطايا القوم التي مسراهم على ظهورها دائما إلى الحبيب . وطريقهم الأقوم الذي يبلغهم إلى منازلهم الأولى من قريب .
تالله لقد ذهب أهلها بشرف الدنيا والآخرة . إذ لهم من معية محبوبهم أوفر نصيب . وقد قضى الله - يوم قدر مقادير الخلائق بمشيئته وحكمته البالغة - : أن المرء مع من أحب . فيا لها من نعمة على المحبين سابغة .
تالله لقد سبق القوم السعاة ، وهم على ظهور الفرش نائمون . وقد تقدموا الركب بمراحل ، وهم في سيرهم واقفون .
من لي بمثل سيرك المدلل تمشي رويدا وتجي في الأول
أجابوا منادي الشوق إذ نادى بهم : حي على الفلاح . وبذلوا نفوسهم في طلب الوصول إلى محبوبهم ، وكان بذلهم بالرضا والسماح . وواصلوا إليه المسير بالإدلاج والغدو والرواح . تالله لقد حمدوا عند الوصول سراهم . وشكروا مولاهم على ما أعطاهم . وإنما يحمد القوم السرى عند الصباح .
فحيهلا إن كنت ذا همة فقد حدا بك حادي الشوق فاطو المراحلا
وقل لمنادي حبهم ورضاهم إذا ما دعا لبيك ألفا كواملا
ولا تنظر الأطلال من دونهم فإن نظرت إلى الأطلال عدن حوائلا
ولا تنتظر بالسير رفقة قاعد ودعه فإن الشوق يكفيك حاملا
وخذ منهم زادا إليهم وسر على طريق الهدى والفقر تصبح واصلا
وأحي بذكراهم سراك إذا ونت ركابك فالذكرى تعيدك عاملا
وإما تخافن الكلال فقل لها أمامك ورد الوصل فابغ المناهلا
وخذ قبسا من نورهم ثم سر به فنورهم يهديك ليس المشاعلا
وحي على واد الأراك فقل به عساك تراهم فيه إن كنت قائلا
وإلا ففي نعمان عند معرف ال أحبة فاطلبهم إذا كنت سائلا
وإلا ففي جمع بليلته فإن تفت ، فمتى ؟ يا ويح من كان غافلا
وحي على جنات عدن بقربهم منازلك الأولى بها كنت نازلا
ولكن سباك الكاشحون لأجل ذا وقفت على الأطلال تبكي المنازلا
[ ص: 10 ] فدعها رسوما دارسات فما بها مقيل فجاوزها فليست منازلا
رسوم عفت يفنى بها الخلق كم بها قتيل ؟ وكم فيها لذا الخلق قاتلا
وخذ يمنة عنها على المنهج الذي عليه سرى وفد المحبة آهلا
وقل ساعدي يا نفس بالصبر ساعة فعند اللقا ذا الكد يصبح زائلا
فما هي إلا ساعة ثم تنقضي ويصبح ذو الأحزان فرحان جاذلا
أول نقدة من أثمان المحبة : بذل الروح فما للمفلس الجبان البخيل وسومها ؟
بدم المحب يباع وصلهم فمن الذي يبتاع بالثمن
تالله ما هزلت فيستامها المفلسون ، ولا كسدت فيبيعها بالنسيئة المعسرون ، لقد أقيمت للعرض في سوق من يزيد ، فلم يرض لها بثمن دون بذل النفوس . فتأخر البطالون . وقام المحبون ينظرون : أيهم يصلح أن يكون ثمنا ؟ فدارت السلعة بينهم . ووقعت في يد
أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين .
لما كثر المدعون للمحبة طولبوا بإقامة البينة على صحة الدعوى . فلو يعطى الناس بدعواهم لادعى الخلي حرقة الشجي . فتنوع المدعون في الشهود . فقيل : لا تقبل هذه الدعوى إلا ببينة
قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله .
فتأخر الخلق كلهم . وثبت أتباع الحبيب في أفعاله وأقواله وأخلاقه . فطولبوا بعدالة البينة بتزكية
يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم .
فتأخر أكثر المحبين وقام المجاهدون ، فقيل لهم : إن نفوس المحبين وأموالهم ليست لهم . فهلموا إلى بيعة
إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة .
فلما عرفوا عظمة المشتري ، وفضل الثمن ، وجلالة من جرى على يديه عقد التبايع : عرفوا قدر السلعة ، وأن لها شأنا . فرأوا من أعظم الغبن أن يبيعوها لغيره بثمن بخس . فعقدوا معه بيعة الرضوان بالتراضي ، من غير ثبوت خيار . وقالوا : والله لا نقيلك ولا نستقيلك .
[ ص: 11 ] فلما تم العقد وسلموا المبيع ، قيل لهم : مذ صارت نفوسكم وأموالكم لنا رددناها عليكم أوفر ما كانت ، وأضعافها معا
ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله .
إذا غرست شجرة المحبة في القلب ، وسقيت بماء الإخلاص ، ومتابعة الحبيب ، أثمرت أنواع الثمار . وآتت أكلها كل حين بإذن ربها . أصلها ثابت في قرار القلب . وفرعها متصل بسدرة المنتهى .
لا يزال سعي المحب صاعدا إلى حبيبه لا يحجبه دونه شيء
إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه .