فصل
قال صاحب المنازل :
الوقت : اسم في هذا الباب لثلاث معان .
المعنى الأول : حين وجد صادق . أي وقت وجد صادق ، أي زمن من وجد يقوم بقلبه ، وهو صادق فيه ، غير متكلف له ، ولا متعمل في تحصيله .
" يكون متعلقه إيناس ضياء فضل " أي رؤية ذلك ، والإيناس الرؤية . قال الله تعالى
فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور نارا قال لأهله امكثوا إني آنست نارا وليس هو مجرد الرؤية . بل رؤية ما يأنس به القلب ، ويسكن إليه . ولا يقال لمن رأى عدوه أو مخوفا آنسه .
ومقصوده : أن هذا الوقت وقت وجد ، صاحبه صادق فيه لرؤيته ضياء فضل الله ومنته عليه . والفضل هو العطاء الذي لا يستحقه المعطى ، أو يعطى فوق استحقاقه . فإذا آنس هذا الفضل ، وطالعه بقلبه : أثار ذلك فيه وجدا آخر ، باعثا على محبة صاحب الفضل والشوق إلى لقائه ، فإن النفوس مجبولة على حب من أحسن إليها .
ودخلت يوما على بعض أصحابنا ، وقد حصل له وجد أبكاه . فسألته عنه ؟ فقال : ذكرت ما من الله به علي من السنة ومعرفتها ، والتخلص من شبه القوم وقواعدهم الباطلة ، وموافقة العقل الصريح ، والفطرة السليمة ، لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم . فسرني ذلك حتى أبكاني .
فهذا الوجد أثاره إيناس فضل الله ومنته .
قوله " جذبه صفاء رجاء " أي جذب ذلك الوجد - أو الإيناس ، أو الفضل - رجاء
[ ص: 128 ] صاف غير مكدر . والرجاء الصافي هو الذي لا يشوبه كدر توهم معاوضة منك ، وأن عملك هو الذي بعثك على الرجاء . فصفاء الرجاء يخرجه عن ذلك . بل يكون رجاء محضا لمن هو مبتدئك بالنعم من غير استحقاقك . والفضل كله له ومنه ، وفي يده - أسبابه وغاياته ، ووسائله ، وشروطه ، وصرف موانعه - كلها بيد الله . لا يستطيع العبد أن ينال منه شيئا بدون توفيقه ، وإذنه ومشيئته .
وملخص ذلك : أن الوقت في هذه الدرجة الأولى : عبارة عن وجد صادق ، سببه رؤية فضل الله على عبده . لأن رجاءه كان صافيا من الأكدار .
قوله " أو لعصمة جذبها صدق خوف " اللام في قوله " أو لعصمة " معطوف على اللام في قوله " أو لإيناس ضياء فضل " أي وجد لعصمة جذبها صدق خوف . فاللام ليست للتعليل . بل هي على حدها في قولك : ذوق لكذا ، ورؤية لكذا . فمتعلق الوجد عصمة وهي منعة وحفظ ظاهر وباطن . جذبها صدق خوف من الرب سبحانه .
والفرق بين الوجد في هذه الدرجة والتي قبلها : أن الوجد في الأولى : جذبه صدق الرجاء . وفي الثانية : جذبه صدق الخوف . وفي الثالثة - التي ستذكر - جذبه صدق الحب . فهو معنى قوله : أو لتلهب شوق جذبه اشتعال محبة .
وخدمته التورية في اللهيب والاشتعال . والمحبة متى قويت اشتعلت نارها في القلب . فحدث عنها لهيب الاشتياق إلى لقاء الحبيب .
وهذه الثلاثة ، التي تضمنتها هذه الدرجة - وهي : الحب والخوف والرجاء - هي التي تبعث على عمارة الوقت بما هو الأولى لصاحبه والأنفع له ، وهي أساس السلوك ، والسير إلى الله . وقد جمع الله سبحانه الثلاثة في قوله
أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا وهذه الثلاثة هي قطب رحى العبودية . وعليها دارت رحى الأعمال . والله أعلم .