( فصل ) :
وأما بيان
حكم الصلح إذا بطل بعد صحته ، أو لم يصح أصلا .
فهو أن يرجع المدعي إلى أصل دعواه إن كان الصلح عن إنكار ، وإن كان عن إقرار ، فيرجع على المدعى عليه بالمدعى لا غيره إلا أن في الصلح عن قصاص إذا لم يصح ; كان له أن يرجع على القاتل بالدية دون القصاص إلا أن يصير مغرورا من جهة المدعى عليه ، فيرجع عليه بضمان الغرور أيضا ، وبيان هذه الجملة أنهما إذا تقايلا الصلح فيما سوى القصاص ، أو رد البدل بالعيب ، وخيار الرؤية يرجع المدعي بالمدعى إن كان عن إقرار ، وإن كان عن إنكار يرجع إلى دعواه ; لأن الإقالة والرد بالعيب ، وخيار الرؤية فسخ للعقد ، وإذا فسخ جعل كأن لم يكن فعاد الأمر على ما كان من قبل ، وكذا إذا استحق ; لأن بالاستحقاق ظهر أنه لم يصح لفوات شرط الصحة فكأنه لم يوجد أصلا ، فكان وجوده وعدمه بمنزلة واحدة إلا أن في الصلح عن القصاص عن إقرار لا يرجع بالمدعى ، وإن فات شرط الصحة ; لأن صورة الصلح أورثت شبهة في درء القصاص والقصاص لا يستوفى مع الشبهة فسقط لكن إلى بدل ، وهو الدية ، فأما المال ، وما سوى القصاص من الحقوق والحدود فيما يمكن استيفاؤه مع الشبهة فأمكن الرجوع بالمدعى ، ولا يرجع بشيء آخر إلا إذا صار مغرورا من جهة المدعى عليه بأن كان بدل الصلح جارية ، فقبضها واستولدها ، ثم جاء مستحق فاستحقها وأخذها وأخذ عقرها وقيمة ولدها وقت الخصومة ، فإنه يرجع على المدعى عليه بالمدعى ، وبما ضمن من قيمة الولد إن كان الصلح عن إقرار ; لأنه صار مغرورا من جهته ، وإن كان الصلح عن إنكار يرجع إلى دعواه لا غير ، فإن
أقام البينة على صحة دعواه ، أو حلف المدعى عليه فنكل حينئذ يرجع بما ادعى ، وبقيمة الولد ; لأنه تبين أنه كان مغرورا ، فيرجع عليه بضمان الغرور ، ولا يرجع بالعقر في نوعي الصلح ; لأن العقر بدل لمنفعة المستوفى ، فكان عليه العقر ، وإن كان الصلح عن القصاص في النفس ، أو ما دونها فصالح على جارية فاستولدها ، ثم استحقت ، فإنه يرجع على المدعى عليه بقيمة الجارية ، وبما ضمن من قيمة الولد إن كان الصلح عن إقرار ، ولا يرجع بالعقر لما ذكرنا ، وإن كان الصلح عن إنكار ; يرجع إلى دعواه لا غير فإن أقام البينة ، أو حلف المدعى عليه ، فنكل يرجع بقيمة الجارية ، وبما ضمن من قيمة الولد لما قلنا ، وإن حلف لا يرجع بشيء ، أو صالح المتوسط على عبد معين فاستحق العبد ، أو وجد به عيبا فرده حتى بطل الصلح لا سبيل للمدعي على المتوسط ، ولكنه يرجع بالمدعى إن كان الصلح عن إقرار ، وإن كان عن إنكار يرجع إلى دعواه ; لأن المتوسط بهذا الصلح لا يضمن سوى تسليم العبد المعين .
ولو صالح على دراهم مسماة ، وضمنها
[ ص: 56 ] ودفعها إليه ، ثم استحقت ، أو وجدها زيوفا له أن يرجع على المصالح المتوسط ; لأنه بالضمان التزم تسليم الجارية ، وسلامة المضمون .
ولو
استحقت الدار المدعاة بعد الصلح عن إقرار ، أو عن إنكار كان للمدعى عليه أن يرجع بما دفع .
( أما ) في موضع الإقرار ، فلا شك فيه ; لأن المأخوذ عوض في حقهما جميعا .
( وأما ) في موضع الإنكار فلأن المأخوذ عوض في حق المدعي عن المدعى عليه ، وقد فات بالاستحقاق ، فيجب عليه رد عوضه هذا إذا استحق كل الدار فأما إذا استحق بعضها ، فإن كان ادعى جميع الدار يرجع بحصة ما استحق لفوات بعض ما هو عوض عن المستحق ، وإن كان ادعى فيها حقا لم يرجع بشيء لجواز أن يكون المدعى ما وراء المستحق ، وإذا بطل الصلح على المنافع بموت أحد المتعاقدين ، وغير ذلك في أثناء المدة ، فإن كان الصلح عن إقرار رجع بالمدعى بقدر ما لم يستوف من المنفعة ، وإن كان عن إنكار رجع إلى الدعوى في قدر ما لم يستوف من المنفعة .
ولو صالح عن القصاص على دن من خمر فإذا هو خل ، أو على عبد ; فإذا هو حر ، فهو على الاختلاف الذي عرف في باب النكاح إلا أن فيما يجب مهر المثل هناك تجب الدية هنا ، وفيما تجب القيمة لرجل مثله هناك يجب ذاك هنا ، ولا يشبه هذا ما إذا صالح عن القصاص على خمر ، وهو يعلم بأنه خمر أنه لا يجب شيء ، وههنا يجب شيء ; لأن هناك صار مغرورا من جهة المدعى عليه بتسمية العبد والخل ، وكل من غر غيره في شيء ، يكون ملتزما ما يلحقه من العهدة فيه ، فإذا ظهر الأمر بخلافه كان له حق الرجوع عليه بحكم الكفالة والضمان ، ومعنى الغرور ، لا يتقدر عند علمه بحال المسمى فتبقى لفظة الصلح كناية عن العفو ، وأنه مسقط للحق أصلا ، فهو الفرق بين الأمرين ، والله عز وجل أعلم .