[ ص: 98 ] فصل ) :
وأما بيان كيفية
فرضية الجهاد ، فالأمر فيه لا يخلو من أحد وجهين ، إما إن كان النفير عاما ( وإما ) إن لم يكن فإن لم يكن النفير عاما فهو فرض كفاية ، ومعناه : أن يفترض على جميع من هو من أهل الجهاد ، لكن إذا قام به البعض سقط عن الباقين ; لقوله - عز وجل - {
فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى } وعد الله - عز وجل - المجاهدين والقاعدين الحسنى ولو كان الجهاد فرض عين في الأحوال كلها لما وعد القاعدين الحسنى ; لأن القعود يكون حراما وقوله - سبحانه وتعالى - {
وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين } الآية ولأن
ما فرض له الجهاد وهو الدعوة إلى الإسلام ، وإعلاء الدين الحق ، ودفع شر الكفرة وقهرهم ، يحصل بقيام البعض به .
وكذا النبي عليه الصلاة والسلام كان يبعث السرايا ، ولو كان فرض عين في الأحوال كلها لكان لا يتوهم منه القعود عنه في حال ، ولا أذن غيره بالتخلف عنه بحال ، وإذا كان فرضا على الكفاية فلا ينبغي للإمام أن يخلي ثغرا من الثغور من جماعة من الغزاة فيهم غنى وكفاية لقتال العدو ، فإذا قاموا به يسقط عن الباقين ، وإن ضعف أهل ثغر عن مقاومة الكفرة ، وخيف عليهم من العدو فعلى من وراءهم من المسلمين الأقرب فالأقرب أن ينفروا إليهم ، وأن يمدوهم بالسلاح ، والكراع ، والمال ; لما ذكرنا أنه فرض على الناس كلهم ممن هو من أهل الجهاد ، لكن الفرض يسقط عنهم بحصول الكفاية بالبعض ، فما لم يحصل لا يسقط
ولا يباح للعبد أن يخرج إلا بإذن مولاه ،
ولا المرأة إلا بإذن زوجها ; لأن خدمة المولى ، والقيام بحقوق الزوجية .
كل ذلك فرض عين فكان مقدما على فرض الكفاية ، وكذا
الولد لا يخرج إلا بإذن والديه أو أحدهما إذا كان الآخر ميتا ; لأن بر الوالدين فرض عين فكان مقدما على فرض الكفاية ، والأصل أن كل سفر لا يؤمن فيه الهلاك ، ويشتد فيه الخطر لا يحل للولد أن يخرج إليه بغير إذن والديه ; لأنهما يشفقان على ولدهما فيتضرران بذلك ، وكل سفر لا يشتد فيه الخطر يحل له أن يخرج إليه بغير إذنهما إذا لم يضيعهما ; لانعدام الضرر ، ومن مشايخنا من رخص في
سفر التعلم بغير إذنهما ; لأنهما لا يتضرران بذلك بل ينتفعان به ، فلا يلحقه سمة العقوق ، هذا إذا لم يكن النفير عاما ، فأما
إذا عم النفير بأن هجم العدو على بلد ، فهو فرض عين يفترض على كل واحد من آحاد المسلمين ممن هو قادر عليه ; لقوله سبحانه وتعالى {
انفروا خفافا وثقالا } قيل : نزلت في النفير .
وقوله سبحانه وتعالى {
ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه } ولأن الوجوب على الكل قبل عموم النفير ثابت ; لأن السقوط عن الباقين بقيام البعض به ، فإذا عم النفير لا يتحقق القيام به إلا بالكل ، فبقي فرضا على الكل عينا بمنزلة الصوم والصلاة ، فيخرج العبد بغير إذن مولاه ، والمرأة بغير إذن زوجها ; لأن منافع العبد والمرأة في حق العبادات المفروضة عينا مستثناة عن ملك المولى والزوج شرعا ، كما في الصوم والصلاة ، وكذا يباح للولد أن يخرج بغير إذن والديه ; لأن حق الوالدين لا يظهر في فروض الأعيان كالصوم والصلاة ، والله - تعالى - أعلم .