( فصل ) :
وأما حكم
اختلاف الغاصب والمغصوب منه إذا قال الغاصب هلك المغصوب في يدي ، ولم يصدقه المغصوب منه ولا بينة للغاصب ، فإن القاضي يحبس الغاصب مدة لو كان قائما لأظهره في تلك المدة ، ثم يقضي عليه بالضمان لما قلنا فيما تقدم أن الحكم الأصلي للغصب هو وجوب رد عين المغصوب ، والقيمة خلف عنه فما لم يثبت العجز عن الأصل لا يقضي بالقيمة التي هي خلف ، ولو
اختلفا في أصل الغصب ، أو في جنس المغصوب ونوعه ، أو قدره ، أو صفته ، أو قيمته وقت الغصب ، فالقول في ذلك كله قول الغاصب ; لأن المغصوب منه يدعي عليه الضمان وهو ينكر ، فكان القول قوله
[ ص: 164 ] إذ القول في الشرع قول المنكر .
ولو
أقر الغاصب بما يدعي المغصوب منه وادعى الرد عليه لا يصدق ، إلا ببينة ; لأن الإقرار بالغصب إقرار بوجود سبب وجود الضمان منه فهو بقوله : رددت عليك يدعي انفساخ السبب ، فلا يصدق من غير بينة ، وكذلك لو
ادعى الغاصب أن المغصوب منه هو الذي أحدث العيب في المغصوب لا يصدق إلا ببينة ; لأن الإقرار بوجود الغصب منه إقرار بوجود الغصب بجميع أجزائه في ضمانه فهو يدعي إحداث العيب من المغصوب منه ، ويدعي خروج بعض أجزائه عن ضمانه ، فلا يصدق إلا ببينة ، ولو
أقام المغصوب منه البينة أنه غصب الدابة ونفقت عنده وأقام الغاصب البينة أنه ردها إليه وأنها نفقت عنده ، فلا ضمان عليه ; لأن من الجائز أن شهود المغصوب منه اعتمدوا في شهادتهم على استصحاب الحال لما أنهم علموا بالغصب وما علموا بالرد ، فبنوا الأمر على ظاهر بقاء المغصوب في يد الغاصب إلى وقت الهلاك وشهود الغاصب اعتمدوا في شهادتهم بالرد حقيقة الأمر وهو الرد ; لأنه أمر لم يكن ، فكانت الشهادة القائمة على الرد أولى ، كما في شهود الجرح مع شهود التزكية .
وروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=14954أبي يوسف رحمه الله أن الغاصب ضامن ، والله تعالى أعلم ولو
أقام المغصوب منه البينة أنه غصب منه هذا العبد ومات عنده وأقام الغاصب البينة أن العبد مات في يد مولاه قبل الغصب لم ينتفع بهذه الشهادة ; لأن موته في يد مولاه قبل الغصب لا يتعلق به حكم ، فلم تقبل الشهادة عليه والتحقت بالعدم ، فيجب العمل بشهادة شهود المغصوب منه ، ولأن من الجائز أن شهود الغاصب اعتمدوا استصحاب الحال ، وهو حال اليد التي كانت عليه للمولى لجواز أنهم علموها ثابتة ، ولم يعلموها بالغصب وظنوا تلك اليد قائمة فاستصحبوها وشهود المغصوب منه اعتمدوا في شهادتهم تحقق الغصب ، فكانت شهادتهم أولى بالقبول .
ولو
أقام المغصوب منه البينة أن الغاصب غصب هذا العبد يوم النحر بالكوفة وأقام الغاصب البينة أنه كان يوم النحر بمكة هو والعبد ، فالضمان واجب على الغاصب ; لأن بينة الغاصب لا يتعلق بها حكم فالتحقت بالعدم ، فبقيت بينة المغصوب منه بلا معارض فلزم العمل بها ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16908محمد رحمه الله في الإملاء : إذا
أقام الغاصب البينة أنه مات في يد المغصوب منه ، وأقام المغصوب منه البينة أنه مات في يد الغاصب ، فالبينة بينة الغاصب لما ذكرنا أن بينته قامت على إثبات أمر لم يكن وهو الرد ، وبينة المغصوب منه قامت على إبقاء ما كان على ما كان وهو الغصب ، فكانت بينة الرد أولى والله سبحانه وتعالى أعلم .
ولو
أقام المغصوب منه البينة أن الدابة نفقت عند الغاصب من ركوبه ، وأقام الغاصب البينة أنه ردها إليه فالبينة بينة المغصوب منه ، وعلى الغاصب القيمة ; لأن بينة الغاصب لا تدفع بينة المغصوب منه ; لأنها قامت على رد المغصوب ، ومن الجائز أنه ردها ، ثم غصبها ثانيا وركبها فنفق في يده فأمكن الجمع بين البينتين ، وكذلك لو شهد شهود صاحب الدابة أن الغاصب قتلها ، وشهد شهود الغاصب أنه ردها إليه لما قلنا ، كما إذا
قال رجل لآخر غصبنا منك ألفا ، ثم قال : كنا عشرة ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=14954أبو يوسف رحمه الله : لا يصدق ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=15922زفر رحمه الله : يصدق .
( وجه ) قوله أن قوله : غصبنا منك حقيقة للجمع ، والعمل بحقيقة اللفظ واجب وفي الحمل على الواحد ترك للعمل بالحقيقة فيصدق .
( وجه ) قول
nindex.php?page=showalam&ids=14954أبي يوسف أن العمل بالحقيقة واجب ما أمكن وههنا لا يمكن ; لأن قوله غصبنا إخبار عن وجود الغصب من جماعة مجهولين ، فلو عملنا بحقيقته لألغينا كلامه ، ولا شك أن العمل بالمجاز أولى من الإلغاء ، والله سبحانه وتعالى أعلم .