بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
( فصل ) :

وأما بيان ما يصير به محرما فنقول ، وبالله التوفيق : لا خلاف في أنه إذا نوى ، وقرن النية بقول وفعل هو من خصائص الإحرام أو دلائله أنه يصير محرما بأن لبى ناويا به الحج إن أراد به الإفراد بالحج أو العمرة ، إن أراد الإفراد بالعمرة ، أو العمرة والحج ، إن أراد القران ; لأن التلبية من خصائص الإحرام ، وسواء تكلم بلسانه ما نوى بقلبه أو لا ; لأن النية عمل القلب لا عمل اللسان لكن يستحب أن يقول بلسانه ما نوى بقلبه فيقول : اللهم إني أريد كذا فيسره لي ، وتقبله مني لما ذكرنا في بيان سنن الحج ، وذكرنا التلبية المسنونة ، ولو ذكر مكان التلبية التهليل أو التسبيح أو التحميد أو غير ذلك مما يقصد به تعظيم الله تعالى مقرونا بالنية يصير محرما .

وهذا على أصل أبي حنيفة ، ومحمد في باب الصلاة أنه يصير شارعا في الصلاة بكل ذكر هو ثناء خالص لله تعالى يراد به تعظيمه لا غير ، وهو ظاهر الرواية عن أبي يوسف ههنا ، وفرق بين الحج والصلاة .

وروي عنه أنه لا يصير محرما إلا بلفظ التلبية كما لا يصير شارعا في الصلاة إلا بلفظ التكبير فأبو حنيفة ، ومحمد مرا على أصلهما أن الذكر الموضوع لافتتاح الصلاة لا يختص بلفظ دون لفظ ففي باب الحج أولى ، ووجه الفرق لأبي يوسف على ظاهر الرواية عنه : أن باب الحج أوسع من باب الصلاة ، فإن أفعال الصلاة لا يقوم بعضها مقام بعض ، وبعض الأفعال يقوم مقام البعض كالهدي ، فإنه يقوم مقام كثير من أفعال الحج في حق المحصر ، وسواء كان بالعربية أو غيرها ، وهو يحسن العربية أو لا يحسنها ، وهذا على أصل أبي حنيفة ، وأبي يوسف في الصلاة ظاهر ، وهو ظاهر الرواية عن محمد في الحج .

وروي عنه أنه لا يصير محرما إلا إذا كان لا يحسن العربية كما في باب الصلاة فهما مرا على أصلهما ، ومحمد على ظاهر الرواية عنه فرق بين الصلاة والحج ، ووجه الفرق له على نحو ما ذكرنا لأبي يوسف في المسألة الأولى .

وتجوز النيابة في التلبية عند العجز بنفسه بأمره بلا خلاف ، حتى لو توجه يريد حجة الإسلام فأغمي عليه فلبى عنه أصحابه .

وقد كان أمرهم بذلك ، حتى لو عجز عنه بنفسه يجوز بالإجماع ، فإن لم يأمرهم بذلك نصا فأهلوا عنه جاز أيضا في قول أبي حنيفة ، وعند أبي يوسف ومحمد لا يجوز ، فلا خلاف في أنه تجوز النيابة في أفعال الحج عند عجزه عنها بنفسه من الطواف والسعي والوقوف ، حتى لو طيف به وسعي ووقف جاز بالإجماع ، وجه قولهما قوله تعالى : { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } ، ولم يوجد منه السعي في التلبية ; لأن فعل غيره لا يكون فعله حقيقة ، وإنما يجعل فعلا له تقديرا بأمره ، ولم يوجد ، بخلاف الطواف ونحوه فإن الفعل هناك ليس بشرط ، بل الشرط حصوله في ذلك الموضع على ما ذكرنا وقد حصل ، والشرط ههنا هو التلبية ، وقول غيره لا يصير قولا له إلا بأمره ولم يوجد ، ولأبي حنيفة أن الأمر ههنا موجود دلالة ، وهي دلالة عقد المرافقة ; لأن كل واحد من رفقائه المتوجهين إلى الكعبة يكون آذنا للآخر بإعانته فيما يعجز عنه من أمر الحج ، فكان الأمر موجودا دلالة .

وسعي الإنسان جاز أن يجعل سعيا لغيره بأمره فقلنا بموجب الآية بحمد الله تعالى ، ولو قلد بدنة يريد به الإحرام بالحج أو بالعمرة أو بهما ، وتوجه معها يصير محرما لقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد } ثم ذكر تعالى بعده { وإذا حللتم فاصطادوا } ، والحل يكون بعد الإحرام ، ولم يذكر الإحرام في الأول ، وإنما ذكر التقليد بقوله عز وجل { ولا القلائد } فدل أن التقليد منهم مع التوجه كان إحراما إلا أنه زيد عليه النية بدليل آخر ، وعن جماعة [ ص: 162 ] من الصحابة رضي الله عنهم منهم علي ، وابن مسعود ، وابن عمر ، وجابر رضي الله عنهم أنهم قالوا : إذا قلد فقد أحرم .

وكذا روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : إذا قلد ، وهو يريد الحج أو العمرة فقد أحرم ، ولأن التقليد مع التوجه من خصائص الإحرام ، فالنية اقترنت بما هو من خصائص الإحرام فأشبه التلبية ، فإن قيل : أليس أنه روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : لا يحرم إلا من أهل ، ولبى فهذا يقتضي أنه لا يصير محرما بالتقليد ، فالجواب : أن ذلك محمول على ما إذا قلد ولم يخرج معها توفيقا بين الدلائل ، وبه نقول : إن بمجرد التقليد لا يصير محرما على ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث بهديه ، ويقيم فلا يحرم عليه شيء } ، والتقليد هو تعليق القلادة على عنق البدنة من عروة مزادة أو شراك نعل من أدم أو غير ذلك من الجلود ، وإن قلد ولم يتوجه ولم يبعث على يد غيره لم يصر محرما ، وإن بعث على يد غيره فكذلك عند عامة العلماء وعامة الصحابة رضي الله عنهم ، وعن ابن عباس : رضي الله عنه أنه يصير محرما بنفس التوجيه من غير توجه ، والصحيح : قول عامة العلماء لما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : { إني كنت لأفتل قلائد بدن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيبعثها ويمكث عندنا حلالا بالمدينة ، لا يجتنب ما يجتنبه المحرم } ، ولأن التوجيه من غير توجه ليس إلا أمر بالفعل فلا يصير به محرما ، كما لو أمر غيره بالتلبية ، ولو توجه بنفسه بعد ما قلد ، وبعث لا يصير محرما ما لم يلحقها ، ويتوجه معها فإذا لحقها ، وتوجه معها ، عند ذلك يصير محرما إلا في هدي المتعة ، فإن هناك يصير محرما بنفس التوجه قبل أن يلحقه .

والقياس أن لا يصير محرما ، ثم أيضا ما لم يلحق ويتوجه معه ; لأن السير بنفسه بدون البدنة ليس من خصائص الإحرام ، ولا دليل أنه يريد الإحرام ، فلا يصير به محرما إلا أنا تركنا القياس ، واستحسنا في هدي المتعة لما أن للهدي فضل تأثير في البقاء على الإحرام ما ليس لغيره ، بدليل أنه لو ساق الهدي لا يجوز له أن يتحلل ، وإن لم يسق جاز له التحلل ، فإذا كان له فضل تأثير في البقاء على الإحرام جاز أن يكون له تأثير في الابتداء .

وقد قالوا : إنه يصير محرما بنفس التوجه في أثر هدي المتعة ، وإن لم يلحق الهدي إذا كان في أشهر الحج ، فأما في غير أشهر الحج ، فلا يصير محرما حتى يلحق الهدي ; لأن أحكام التمتع لا تثبت قبل أشهر الحج ، فلا يصير هذا الهدي للمتعة قبل أشهر الحج فكان هدي التطوع ، ولو جلل البدنة ونوى الحج لا يصير محرما ، وإن توجه معها ; لأن التجليل ليس من خصائص الحج ; لأنه إنما يفعل ذلك لدفع الحر ، والبرد عن البدنة أو للتزيين ، ولو قلد الشاة ينوي به الحج وتوجه معها لا يصير محرما ، وإن نوى الإحرام ; لأن تقليد الغنم ليس بسنة عندنا فلم يكن من دلائل الإحرام ، فضلا عن أن يكون من خصائصه ، والدليل على أن الغنم لا تقلد قوله تعالى : { ولا الهدي ، ولا القلائد } عطف القلائد على الهدي ، والعطف يقتضي المغايرة في الأصل .

واسم الهدي يقع على الغنم والإبل والبقر جميعا فهذا يدل على أن الهدي نوعان : ما يقلد ، وما لا يقلد ، ثم الإبل والبقر يقلدان بالإجماع فتعين أن الغنم لا تقلد ، ليكون عطف القلائد على الهدي عطف الشيء على غيره فيصح ، ولو أشعر بدنته ، وتوجه معها لا يصير محرما ; لأن الإشعار مكروه عند أبي حنيفة ; لأنه مثلة ، وإيلام الحيوان من غير ضرورة لحصول المقصود بالتقليد ، وهو الإعلام بكون المشعر هديا لئلا يتعرض له لو ضل ، والإتيان بفعل مكروه لا يصلح دليل الإحرام ، واختلف المشايخ على قول أبي يوسف ، ومحمد قال بعضهم : إن أشعر وتوجه معها يصير محرما عندهما ; لأن الإشعار سنة عندهما كالتقليد فيصلح أن يكون دليل الإحرام كالتقليد ، وقال بعضهم : لا يصير محرما عندهما أيضا ; لأن الإشعار ليس بسنة عندهما ، بل هو مباح فلم يكن قربة ، فلا يصلح دليل الإحرام ، وذكر في الجامع الصغير أن الإشعار عندهما حسن ، ولم يسمه سنة ; لأنه من حيث إنه إكمال لما شرع له التقليد ، وهو إعلام المقلد بأنه هدي لما أن تمام الإعلام تحصل به سنة ، ومن حيث إنه مثلة وبدعة فتردد بين السنة والبدعة فسماه حسنا ، وعند الشافعي الإشعار سنة ، واحتج بما روي { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشعر } ، والجواب : أن ذلك كان في الابتداء حين كانت المثلة مشروعة ، ثم لما نهي عن المثلة انتسخ بنسخ المثلة ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك قطعا لأيدي المشركين عن التعرض للهدايا لو ضلت ; لأنهم كانوا ما يتعرضون للهدايا .

والتقليد ما كان يدل دلالة تامة أنها هدي ، فكان يحتاج إلى الإشعار ليعلموا أنها هدي .

وقد زال هذا المعنى في زماننا فانتسخ بانتساخ المثلة ، ثم الإشعار [ ص: 163 ] هو الطعن في أسفل السنام ، وذلك من قبل اليسار عند أبي يوسف ، وعند الشافعي من قبل اليمين ، وكل ذلك مروي { عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه كان يدخل بين بعيرين من قبل الرءوس ، وكان يضرب أولا الذي عن يساره من قبل يسار سنامه ، ثم يعطف على الآخر فيضربه من قبل يمينه اتفاقا للأول لا قصدا ، } فصار الطعن على الجانب الأيسر أصليا ، والآخر اتفاقيا ، بل الاعتبار الأصلي أولى ، والله عز وجل أعلم هذا الذي ذكرنا في أن الإحرام لا يثبت بمجرد النية ما لم يقترن بها قول وفعل هو من خصائص الإحرام أو دلائله ، ظاهر مذهب أصحابنا .

وروي عن أبي يوسف أنه يصير محرما بمجرد النية ، وبه أخذ الشافعي ، وهذا يناقض قوله : إن الإحرام ركن ; لأنه جعل نية الإحرام إحراما ، والنية ليست بركن بل هي شرط ; لأنها عزم على الفعل ، والعزم على فعل ليس ذلك الفعل ، بل هو عقد على أدائه ، وهو أن تعقد قلبك عليه أنك فاعله لا محالة ، قال الله تعالى : { فإذا عزم الأمر } أي : جد الأمر ، وفي الحديث : { خير الأمور عوازمها } أي ما وكدت رأيك عليه ، وقطعت التردد عنه ، وكونه ركنا يشعر بكونه من أفعال الحج ، فكان تناقضا ، ثم جعل الإحرام عبارة عن مجرد النية مخالف للغة ، فإن الإحرام في اللغة هو الإهلال ، يقال : أحرم أي أهل بالحج ، وهو موافق لمذهبنا ، أي الإهلال لا بد منه إما بنفسه أو بما يقوم مقامه على ما بينا .

والدليل على أن الإهلال شرط ما روي { عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لعائشة رضي الله عنها وقد رآها حزينة ما لك ؟ فقالت : أنا قضيت عمرتي ، وألقاني الحج عاركا ، فقال النبي : صلى الله عليه وسلم ذاك شيء كتبه الله تعالى على بنات آدم حجي وقولي مثل ما يقول الناس في حجهم ، } فدل قوله " قولي ما يقول الناس في حجهم " على لزوم التلبية ; لأن الناس يقولونها ، وفيه إشارة إلى أن إجماع المسلمين حجة يجب اتباعها حيث أمرها باتباعهم بقوله : " قولي ما يقول الناس في حجهم " ، وروينا عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : لا يحرم إلا من أهل ولبى ، ولم يرو عن غيرها خلافه فيكون إجماعا ، ولأن مجرد النية لا عبرة به في أحكام الشرع عرفنا ذلك بالنص والمعقول ، أما النص ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إن الله تعالى عفا عن أمتي ما تحدثت به أنفسهم ما لم يتكلموا أو يفعلوا } .

وأما المعقول فهو أن النية وضعت لتعيين جهة الفعل في العبادة ، وتعيين المعدوم محال ، ولو أحرم بالحج ، ولم يعين حجة الإسلام ، وعليه حجة الإسلام ، يقع عن حجة الإسلام استحسانا .

والقياس أن لا يقع عن حجة الإسلام إلا بتعيين النية ، وجه القياس أن الوقت يقبل الفرض والنفل ، فلا بد من التعيين بالنية بخلاف صوم رمضان أنه يتأدى بمطلق النية ; لأن الوقت هناك لا يقبل صوما آخر فلا حاجة إلى التعيين بالنية ، والاستحسان أن الظاهر من حال من عليه حجة الإسلام أنه لا يريد بإحرام الحج حجة التطوع ، ويبقي نفسه في عهدة الفرض فيحمل على حجة الإسلام بدلالة حاله ، فكان الإطلاق فيه تعيينا كما في صوم رمضان ، ولو نوى التطوع : يقع عن التطوع ; لأنا إنما أوقعناه عن الفرض عند إطلاق النية بدلالة حاله ، والدلالة لا تعمل مع النص بخلافه ، ولو لبى ينوي الإحرام ، ولا نية له في حج ، ولا عمرة مضى في أيهما شاء ما لم يطف بالبيت شوطا ، فإن طاف شوطا كان إحرامه عن العمرة ، والأصل في انعقاد الإحرام بالمجهول : ما روي { أن عليا ، وأبا موسى الأشعري رضي الله عنهما لما قدما من اليمن في حجة الوداع قال لهما النبي : صلى الله عليه وسلم بماذا أهللتما ؟ فقالا : بإهلال كإهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم } فصار هذا أصلا في انعقاد الإحرام بالمجهول ، ولأن الإحرام شرط جواز الأداء عندنا ، وليس بأداء بل هو عقد على الأداء ، فجاز أن ينعقد مجملا ويقف على البيان ، وإذا انعقد إحرامه جاز له أن يؤدي به حجة أو عمرة ، وله الخيار في ذلك ، يصرفه إلى أيهما شاء ما لم يطف بالبيت شوطا واحدا ، فإذا طاف بالبيت شوطا واحدا ، كان إحرامه للعمرة ; لأن الطواف ركن في العمرة ، وطواف اللقاء في الحج ليس بركن ، بل هو سنة فإيقاعه عن الركن أولى .

وتتعين العمرة بفعله كما تتعين بقصده قال الحاكم في الأصل : وكذلك لو لم يطف حتى جامع أو أحصر كانت عمرة ; لأن القضاء قد لزمه فيجب عليه الأقل ، إذ الأقل متيقن به ، وهو العمرة ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية