ذكر
ابتداء دولة بني مروان
لما قتل
باذ سار ابن أخته
أبو علي بن مروان في طائفة من الجيش إلى
حصن كيفا ، وهو على
دجلة ، وهو من أحصن المعاقل ، وكان به امرأة
باذ وأهله ، فلما بلغ الحصن قال لزوجة خاله : قد أنفذني خالي إليك في مهم فظنته حقا ، فلما صعد إليها أعلمها بهلاكه ، وأطمعها في التزوج بها ، فوافقته على ملك الحصن وغيره ، ونزل وقصد حصنا حصنا ، حتى ملك ما كان لخاله ، وسار إلى
ميافارقين وسار إليه
أبو طاهر وأبو عبد الله ابنا
حمدان وطمعا فيه ، ومعهما رأس
باذ ، فوجدا
أبا علي قد أحكم أمره ، فتصافوا واقتتلوا ، وظفر
أبو علي وأسر
أبا عبد الله بن حمدان ، فأكرمه وأحسن إليه ، ثم أطلقه فسار إلى أخيه
أبي طاهر ، وهو
بآمد يحصرها ، فأشار عليه بمصالحة
ابن مروان ، فلم يفعل ، واضطر
أبو عبد الله إلى موافقته ، وسارا إلى
ابن مروان فواقعاه ، فهزمهما ، وأسر
أبا عبد الله أيضا فأساء إليه وضيق عليه ، إلى أن كاتبه صاحب
مصر وشفع فيه فأطلقه ، ومضى إلى
مصر وتقلد منها ولاية
حلب ، وأقام بتلك الديار إلى أن توفي .
وأما
أبو طاهر فإنه لما وصل إلى
نصيبين قصده
أبو الذواد فأسره
وعليا ابنه ،
والمزعفر أمير
بني نمير ، وقتلهم صبرا .
[ ص: 436 ] وأقام
ابن مروان بديار بكر وضبطها ، وأحسن إلى أهلها ، وألان جانبه لهم ، فطمع فيه أهل
ميافارقين ، فاستطالوا على أصحابه ، فأمسك عنهم إلى يوم العيد ، وقد خرجوا إلى المصلى ، فلما تكاملوا في الصحراء وافى إلى البلد ، وأخذ
أبا الصقر شيخ البلد فألقاه من على السور ، وقبض على من كان معه ، وأخذ
الأكراد ثياب الناس خارج البلد ، وأغلق أبواب البلد ، وأمر أهله أن ينصرفوا حيث شاءوا ، ولم يمكنهم من الدخول فذهبوا كل مذهب .
وكان قد تزوج
ست الناس بنت سعد الدولة بن سيف الدولة بن حمدان ، فأتته من
حلب ، فعزم على زفافها
بآمد ، فخاف شيخ البلد ، واسمه
عبد البر ، أن يفعل به مثل فعله بأهل
ميافارقين ، فأحضر ثقاته وحلفهم على كتمان سره ، وقال لهم : قد صح عزم الأمير على أن يفعل بكم مثل فعله بأهل
ميافارقين ، وهو يدخل من باب الماء ويخرج من باب الجهاد ، فقفوا له في الدركاه ، وانثروا عليه هذه الدراهم ، ثم اعتمدوا بها وجهه ، فإنه سيغطيه بكمه ، فاضربوه بالسكاكين في مقتله ففعلوا .
وجرت الحال كما وصف ، وتولى قتله إنسان يقال [ له ]
ابن دمنة كان فيه إقدام وجرأة ، فاختبط الناس وماجوا ، فرمى برأسه إليهم ، فأسرعوا السير إلى
ميافارقين .
وحدث جماعة من
الأكراد نفوسهم بملك البلد ، فاستراب بهم مستحفظ
ميافارقين لإسراعهم ، وقال : إن كان الأمير حيا فادخلوا معه ، وإن كان قتل فأخوه مستحق لموضعه . فما كان بأسرع من أن وصل
ممهد الدولة أبو منصور بن مروان أخو
أبي علي إلى
ميافارقين ، ففتح له باب البلد فدخله وملكه ، ولم يكن له فيه إلا السكة والخطبة لما نذكره .
وأما
عبد البر فاستولى على
آمد ، وزوج
ابن دمنة ، الذي قتل
أبا علي ، ابنته فعمل له
ابن دمنة دعوة وقتله ، وملك
آمد ، وعمر البلد وبنى لنفسه قصرا عند
السور ، وأصلح أمره مع
ممهد الدولة ، وهادى ملك
الروم ، وصاحب
مصر ، وغيرهما من الملوك وانتشر ذكره .
[ ص: 437 ] وأما
ممهد الدولة فإنه كان معه إنسان من أصحابه يسمى
شروة ، حاكما في مملكته ، وكان
لشروة غلام قد ولاه الشرطة ، وكان
ممهد الدولة يبغضه ، ويريد قتله ، ويتركه احتراما لصاحبه ، ففطن الغلام لذلك ، فأفسد ما بينهما ، فعمل
شروة طعاما
بقلعة الهتاخ ، وهي إقطاعه ، ودعا إليها
ممهد الدولة ، فلما حضر عنده قتله ، وذلك سنة اثنتين وأربعمائة ، وخرج من الدار إلى بني عم
ممهد الدولة ، فقبض عليهم وقيدهم ، وأظهر أن
ممهد الدولة أمره بذلك ، ومضى إلى
ميافارقين وبين يديه المشاعل ، ففتحوا له ظنا منهم أنه
ممهد الدولة ، فملكها ، وكتب إلى أصحاب القلاع يستدعيهم ، وأنفذ إنسانا إلى
أرزن ليحضر متوليها ، ويعرف
بخواجه أبي القاسم ، فسار
خواجه نحو
ميافارقين ، ولم يسلم القلعة إلى القاصد إليه .
فلما توسط الطريق سمع بقتل
ممهد الدولة فعاد إلى
أرزن ، وأرسل إلى
أسعرد ، فأحضر
أبا نصر بن مروان أخا
ممهد الدولة ، وكان أخوه قد ( أبعده عنه ، وكان يبغضه لمنام رآه ، وهو أنه رأى ) كأن الشمس سقطت في حجره ، فنازعه
أبو نصر عليها وأخذها ، فأبعده لهذا ، وتركه
بأسعرد مضيقا عليه ، فلما استدعاه
خواجه قال له دبير : تفلح ؟ قال : نعم .
وكان
شروة قد أنفذ إلى
أبي نصر ، فوجدوه قد سار إلى
أرزن ، فعلم حينئذ انتقاض أمره . وكان
مروان والد ممهد الدولة قد أضر ، وهو
بأرزن ، عند قبر ابنه
أبي علي ، وهو وزوجته ، فأحضر
خواجه أبا نصر عندهما ، وحلفه على القبول منه ، والعدل ، وأحضر القاضي والشهود على اليمين وملكه
أرزن ، ثم ملك سائر بلاد
ديار بكر ، فدامت أيامه ، وأحسن السيرة ، وكان مقصدا للعلماء من سائر الآفاق ، وكثروا ببلاده .
[ ص: 438 ] وممن قصده
nindex.php?page=showalam&ids=15049أبو عبد الله الكازروني ، وعنه انتشر مذهب
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي بديار بكر ، وقصده الشعراء وأكثروا مدحه وأجزل جوائزهم ، وبقي كذلك من سنة اثنتين وأربعمائة إلى سنة ثلاث وخمسين ، فتوفي فيها وكان عمره نيفا وثمانين سنة ، وكانت الثغور معه آمنة ، وسيرته في رعيته أحسن سيرة ، فلما مات ملك بلاده ولده .