ذكر
ملك الفرنج جزيرة صقلية
في هذه السنة استولى
الفرنج ، لعنهم الله ، على جميع جزيرة
صقلية ، أعادها الله تعالى إلى الإسلام والمسلمين .
وسبب ذلك أن
صقلية كان الأمير عليها سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة
أبا الفتوح يوسف بن عبد الله بن محمد بن أبي الحسين ، ولاه عليها
nindex.php?page=showalam&ids=14780العزيز العلوي ، صاحب
مصر وإفريقية ، فأصابه هذه السنة فالج ، فتعطل جانبه الأيسر ، وضعف الجانب الأيمن ، فاستناب ابنه
جعفرا ، فبقي كذلك ضابطا للبلاد ، حسن السيرة في أهلها إلى سنة خمس وأربعمائة ، فخالف عليه أخوه علي ، وأعانه جمع من
البربر والعبيد ، فأخرج إليه أخوه
جعفر جندا من المدينة ، فاقتتلوا سابع شعبان ، وقتل من
البربر والعبيد خلق كثير ، وهرب من بقي منهم وأخذ علي أسيرا ، فقتله أخوه
جعفر ، وعظم قتله على أبيه ، فكان بين خروجه وقتله ثمانية أيام .
وأمر
جعفر حينئذ أن ينفى كل بربري
بالجزيرة ، فنفوا إلى
إفريقية ، وأمر بقتل العبيد ، فقتلوا عن آخرهم وجعل جنده كلهم من أهل
صقلية . فقل العسكر
بالجزيرة ، وطمع أهل
الجزيرة في الأمراء ، فلم يمض إلا يسير حتى ثار به أهل
صقلية ، وأخرجوه ، وخلعوه ، وأرادوا قتله .
وسبب ذلك أنه ولى عليهم إنسانا صادرهم ، وأخذ الأعشار من غلاتهم ، واستخف بقوادهم وشيوخ البلد ، وقهر
جعفر إخوته ، واستطال عليهم ، فلم يشعر إلا وقد زحف إليه أهل البلد كبيرهم وصغيرهم ، فحصروه في قصره في المحرم سنة عشر وأربعمائة ، وأشرفوا على أخذه ، فخرج إليهم أبوه
يوسف في محفة ، وكانوا له محبين ، فلطف بهم ورفق ، فبكوا رحمة له من مرضه ، وذكروا له ما أحدث ابنه عليهم ، وطلبوا أن يستعمل ابنه
أحمد المعروف بالأكحل ، ففعل ذلك .
[ ص: 346 ] وخاف
يوسف على ابنه
جعفر منهم ، فسيره في مركب إلى
مصر ، وسار أبوه
يوسف بعده ، ومعهما من الأموال ستمائة ألف دينار وسبعون ألفا ، وكان
ليوسف من الدواب ثلاثة عشر ألف حجرة ، سوى البغال وغيرها ، ومات
بمصر وليس له إلا دابة واحدة .
ولما ولي
الأكحل أخذ أمره بالحزم والاجتهاد ، وجمع المقاتلة ، وبث سراياه في بلاد الكفرة ، فكانوا يحرقون ، ويغنمون ، ويسبون ، ويخربون البلاد ، وأطاعه جميع قلاع
صقلية التي للمسلمين .
وكان
للأكحل ابن اسمه
جعفر كان يستنيبه إذا سافر ، فخالف سيرة أبيه ، ثم ( إن الأكحل ) جمع أهل
صقلية وقال : أحب أن أشليكم على الإفريقين الذين قد شاركوكم في بلادكم ، والرأي إخراجهم ، فقالوا : قد صاهرناهم وصرنا شيئا واحدا ، فصرفهم . ثم أرسل إلى الإفريقيين ، فقال لهم مثل ذلك ، فأجابوه إلى ما أراد ، فجمعهم حوله ، فكان يحمي أملاكهم ، ويأخذ الخراج من أملاك أهل
صقلية ، فسار من أهل
صقلية جماعة إلى
nindex.php?page=showalam&ids=12968المعز بن باديس ، وشكوا إليه ما حل بهم ، وقالوا : نحب أن نكون في طاعتك ، وإلا سلمنا البلاد إلى
الروم ، وذلك سنة سبع وعشرين وأربعمائة ، فسير معهم ولده عبد الله في عسكر ، فدخل المدينة ، وحصر
الأكحل في الخلاصة ، ثم اختلف أهل
صقلية ، وأراد بعضهم نصرة
الأكحل ، فقتله الذين أحضروا عبد الله بن المعز .
ثم إن الصقليين رجع بعضهم على بعض ، وقالوا : أدخلتم غيركم عليكم ، والله لا كانت عاقبة أمركم فيه إلى خير ! فعزموا على حرب عسكر المعز ، فاجتمعوا وزحفوا إليهم ، فاقتتلوا ، فانهزم عسكر المعز ، وقتل منهم ثمانمائة رجل ، ورجعوا في المراكب إلى
إفريقية ، وولى أهل
الجزيرة عليهم حسنا الصمصام ، أخا
الأكحل ، فاضطربت أحوالهم ، واستولى الأراذل ، وانفرد كل إنسان ببلد ، وأخرجوا الصمصام ،
[ ص: 347 ] فانفرد القائد
عبد الله بن منكوت بمازر وطرابنش وغيرهما ، وانفرد القائد
علي بن نعمة ، المعروف بابن الحواس ،
بقصريانة وجرجنت وغيرهما ، وانفرد
ابن الثمنة بمدينة سرقوسة ،
وقطانية ، وتزوج بأخت
ابن الحواس .
ثم إنه جرى ( بينها وبين زوجها ) كلام فأغلظ كل منهما لصاحبه ، وهو سكران ، فأمر
ابن الثمنة بفصدها في عضديها ، وتركها لتموت ، فسمع ولده
إبراهيم ، فحضر ، وأحضر الأطباء ، وعالجها إلى أن عادت قوتها ، ولما أصبح أبوه ندم ، واعتذر إليها بالسكر ، فأظهرت قبول عذره .
ثم إنها طلبت منه بعد مدة أن تزور أخاها ، فأذن لها ، وسير معها التحف والهدايا ، فلما وصلت ذكرت لأخيها ما فعل بها ، فحلف أنه لا يعيدها إليه ، فأرسل
ابن الثمنة يطلبها ، فلم يردها إليه ، فجمع
ابن الثمنة عسكره ، وكان قد استولى على أكثر
الجزيرة ، وخطب له بالمدينة ، وسار ، وحصر
ابن الحواس بقصريانة ، فخرج إليه فقاتله ، فانهزم
ابن الثمنة ، وتبعه إلى قرب
مدينته قطانية ، وعاد عنه بعد أن قتل من أصحابه فأكثر .
فلما رأى
ابن الثمنة أن عساكره قد تمزقت ، سولت له نفسه الانتصار بالكفار لما يريده الله تعالى ، فسار إلى
مدينة مالطة ، وهي بيد
الفرنج قد ملكوها لما خرج
بردويل الفرنجي الذي تقدم ذكره سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة ، واستوطنها
الفرنج [ ص: 348 ] إلى الآن ، وكان ملكها حينئذ
رجار الفرنجي في جمع من
الفرنج ، فوصل إليهم
ابن الثمنة وقال : أنا أملككم
الجزيرة ! فقالوا : إن فيها جندا كثيرا ، ولا طاقة لنا بهم ، فقال : إنهم مختلفون ، وأكثرهم يسمع قولي ، ولا يخالفون أمري ، فساروا معه في رجب سنة أربع وأربعين وأربعمائة ، فلم يلقوا من يدافعهم ، فاستولوا على ما مروا به في طريقهم ، وقصد بهم إلى قصريانة فحصروها ، فخرج إليهم
ابن الحواس ، فقاتلهم ، فهزمه
الفرنج ، فرجع إلى الحصن ، فرحلوا عنه ، وساروا في
الجزيرة ، واستولوا على مواضع كثيرة ، وفارقها كثير من أهلها من العلماء والصالحين ، وسار جماعة من أهل
صقلية إلى
nindex.php?page=showalam&ids=12968المعز بن باديس ، وذكروا له ما الناس فيه
بالجزيرة من الخلف ، وغلبة
الفرنج على كثير منها ، فعمر أسطولا كبيرا ، وشحنه بالرجال والعدد ، وكان الزمان شتاء ، فساروا إلى
قوصرة ، فهاج عليهم البحر ، فغرق أكثرهم ، ولم ينج إلا القليل .
وكان ذهاب هذا الأسطول مما أضعف المعز ، وقوى عليه العرب ، حتى أخذوا البلاد منه ، فملك حينئذ
الفرنج أكثر البلاد على مهل وتؤدة ، لا يمنعهم أحد ، واشتغل صاحب
إفريقية بما دهمه من العرب ، ومات المعز سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة ، وولي ابنه
تميم ، فبعث إليه أسطولا وعسكرا إلى
الجزيرة ، وقدم عليه ولديه
أيوب وعليا ، فوصلوا إلى
صقلية ، فنزل
أيوب والعسكر المدينة ، ونزل
علي جرجنت ، ثم انتقل
أيوب إلى
جرجنت ، فأمر
علي ابن الحواس أن ينزل في قصره ، وأرسل هدية كثيرة .
فلما أقام
أيوب فيها أحبه أهلها ، فحسده
ابن الحواس ، فكتب إليهم ليخرجوه ، فلم يفعلوا ، فسار إليه في عسكره ، وقاتله ، فشد أهل
جرجنت من
أيوب ، وقاتلوا معه ، فبينما
ابن الحواس يقاتل أتاه سهم غرب فقتله ، فملك العسكر عليهم
أيوب .
ثم وقع بعد ذلك بين أهل المدينة وبين عبيد
تميم فتنة أدت إلى القتال ، ثم زاد الشر بينهم ، فاجتمع
أيوب وعلي أخوه ، ورجعا في الأسطول إلى
إفريقية سنة إحدى وستين وأربعمائة ، وصحبهم جماعة من أعيان
صقلية والأسطولية ، ولم يبق للفرنج
[ ص: 349 ] ممانع ، فاستولوا على
الجزيرة ، ولم يثبت بين أيديهم غير قصريانة
وجرجنت ، فحصرهما
الفرنج ، وضيقوا على المسلمين بهما ، فضاق الأمر على أهلهما ، حتى أكلوا الميتة ، ولم يبق عندهم ما يأكلونه فأما أهل
جرجنت فسلموها إلى
الفرنج ، وبقيت
قصريانة بعدها ثلاث سنين ، فلما اشتد الأمر عليهم أذعنوا إلى التسليم ، فتسلمها
الفرنج ، لعنهم الله ، سنة أربع وثمانين وأربعمائة ، وملك
رجار جميع
الجزيرة وأسكنها
الروم والفرنج مع المسلمين ، ولم يترك لأحد من أهلها حماما ، ولا دكانا ، ولا طاحونا .
ومات
رجار ، بعد ذلك ، قبل التسعين والأربعمائة ، وملك بعده ولده
رجار ، فسلك طريق ملوك المسلمين من الجنائب ، والحجاب ، والسلاحية ، والجاندارية ، وغير ذلك ، وخالف عادة
الفرنج ، فإنهم لا يعرفون شيئا منه ، وجعل له ديوان المظالم ترفع إليه شكوى المظلومين ، فينصفهم ، ولو من ولده ، وأكرم المسلمين ، وقربهم ، ومنع عنهم
الفرنج ، فأحبوه ، وعمر أسطولا كبيرا ، وملك الجزائر التي بين المهدية
وصقلية ، مثل
مالطة ،
وقوصرة ،
وجربة ،
وقرقنة ، وتطاول إلى سواحل
إفريقية ، فكان منه ما نذكره إن شاء الله .