ذكر
وقعة السودان بمصر
في هذه السنة في أوائل ذي القعدة قتل
مؤتمن الخلافة ، وهو خصي كان بقصر
العاضد ، إليه الحكم فيه ، والتقدم على جميع من يحويه ، فاتفق هو وجماعة من المصريين على مكاتبة
الفرنج واستدعائهم إلى البلاد ، والتقوي بهم على
صلاح الدين ومن معه ، وسيروا الكتب مع إنسان يثقون به ، وأقاموا ينتظرون جوابه ، وسار ذلك
القاصد إلى
البئر البيضاء ، فلقيه إنسان تركماني ، فرأى ( معه ) نعلين جديدين ، فأخذهما منه ، وقال في نفسه : لو كانا مما يلبسه هذا الرجل ( لكانا خلقين ،
[ ص: 346 ] فإنه ) رث الهيئة ، وارتاب به وبهما ، فأتى بهما
صلاح الدين ففتقهما ، فرأى الكتاب فيهما ، فقرأه وسكت عليه .
وكان مقصود
مؤتمن الخلافة أن يتحرك
الفرنج إلى
الديار المصرية ، فإذا وصلوا إليها خرج
صلاح الدين في العساكر إلى قتالهم ، فيثور
مؤتمن الخلافة بمن معه من المصريين على مخلفيهم فيقتلونهم ، ثم يخرجون بأجمعهم يتبعون
صلاح الدين ، فيأتونه من وراء ظهره ،
والفرنج من بين يديه ، فلا يبقى لهم باقية ، فلما قرأ الكتاب سأل عن كاتبه ، فقيل : رجل يهودي ، فأحضر ، فأمر بضربه وتقريره ، فابتدأ وأسلم ، وأخبره الخبر ، وأخفى
صلاح الدين الحال .
واستشعر
مؤتمن الخلافة فلازم القصر ولم يخرج منه خوفا ، وإذا خرج لم يبعد [
وصلاح الدين ] لا يظهر له شيئا من الطلب ; لئلا ينكر ذلك ، فلما طال الأمر خرج من القصر إلى قرية له تعرف
بالحرقانية للتنزه ، فلما علم به
صلاح الدين أرسل إليه جماعة ، فأخذوه ، وقتلوه ، وأتوه برأسه ، وعزل جميع الخدم الذين يتولون أمر قصر الخلافة ، واستعمل على الجميع
بهاء الدين قراقوش ، وهو خصي أبيض ، وكان لا يجري في القصر صغير ولا كبير إلا بأمره وحكمه ، فغضب السودان الذين
بمصر لقتل
مؤتمن الخلافة حمية ، ولأنه كان يتعصب لهم ، فحشدوا وجمعوا ، فزادت عدتهم على خمسين ألفا ، وقصدوا حرب الأجناد الصلاحية ، فاجتمع العسكر أيضا ، وقاتلوهم بين القصرين .
وكثر القتل في الفريقين ، فأرسل
صلاح الدين إلى محلتهم المعروفة
بالمنصورة ، فأحرقها على أموالهم وأولادهم وحرمهم ، فلما أتاهم الخبر بذلك ولوا منهزمين ، فركبهم السيف ، وأخذت عليهم أفواه السكك ، فطلبوا الأمان بعد أن كثر فيهم القتل ، فأجيبوا إلى ذلك ، فأخرجوا من
مصر إلى
الجيزة ، فعبر إليهم
شمس الدولة تورانشاه أخو صلاح الدين الأكبر في طائفة من العسكر ، فأبادهم بالسيف ، ولم يبق منهم إلا القليل الشريد ، وكفى الله تعالى شرهم ، والله أعلم .