ذكر
عود صلاح الدين إلى بلد الموصل والصلح بينه وبين أتابك عز الدين
لما فرغ
صلاح الدين من أمر
ميافارقين ، وأحكم قواعدها ، وقرر إقطاعاتها وولاياتها فوصل إلى
كفر زمار ، أجمع على العود إلى
الموصل ، فسار نحوها ، وجعل طريقه على
نصيبين ، فوصل إلى
كفر زمار ، والزمان شتاء .
فنزلها في عساكره ، وعزم على المقام بها وإقطاع جميع بلاد
الموصل ، وأخذ غلالها ودخلها ، وإضعاف
الموصل بذلك ، إذ علم أنه لا يمكنه التغلب عليها ، وكان نزوله في شعبان ، وأقام بها شعبان ورمضان ، وترددت الرسل بينه وبين
عز الدين ، صاحب
الموصل ، وصار
مجاهد الدين يراسل ويتقرب ،
[ ص: 10 ] وكان قوله مقبولا عند سائر الملوك لما علموا من صحته .
فبينما الرسل تتردد في الصلح ، إذ مرض
صلاح الدين ، وسار من
كفر زمار عائدا إلى
حران ، فلحقه الرسل بالإجابة إلى ما طلب ، فتقرر الصلح ، وحلف على ذلك ، وكانت القاعدة أن يسلم إليه
عز الدين شهرزور وأعمالها وولاية
القرابلي ، وجميع ما وراء
الزاب من الأعمال .
وأن يخطب له على منابر بلاده ، ويضرب اسمه على السكة ، فلما حلف أرسل رسله فحلف
عز الدين له ، وتسلموا البلاد التي استقرت القاعدة على تسميتها .
ووصل
صلاح الدين إلى
حران ، فأقام بها مريضا ، وأمنت الدنيا ، وسكنت الدهماء ، وانحسمت مادة الفتن ، وكان ذلك بتوصل
مجاهد الدين قايماز ، رحمه الله .
وأما
صلاح الدين فإنه طال مرضه
بحران ، وكان عنده من أهله أخوه
الملك العادل ، وله حينئذ
حلب ، وولده
nindex.php?page=showalam&ids=14778الملك العزيز عثمان ، واشتد مرضه حتى أيسوا من عافيته ، فحلف الناس لأولاده ، وجعل لكل منهم شيئا من البلاد معلوما ، وجعل أخاه
العادل وصيا على الجميع ، ثم إنه عوفي وعاد إلى
دمشق في المحرم سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة .
ولما كان مريضا
بحران كان عنده ابن عمه
nindex.php?page=showalam&ids=16183ناصر الدين محمد بن شيركوه ، وله من الأقطاع
حمص والرحبة ، فسار من عنده إلى
حمص ، فاجتاز
بحلب وأحضر جماعة من أحداثها وأعطاهم مالا ، ولما وصل إلى
حمص راسل جماعة من الدمشقيين وواعدهم على تسليم البلد إليه إذا مات
صلاح الدين ، وأقام
بحمص ينتظر موته ليسير إلى
دمشق فيملكها ، فعوفي وبلغه الخبر على جهته .
فلم يمض غير قليل حتى مات
ابن شيركوه ليلة عيد الأضحى فإنه شرب الخمر وأكثر منها ، فأصبح ميتا ، فذكروا ، والعهدة عليهم ، أن
صلاح الدين وضع عليه إنسانا يقال له
الناصح بن العميد ، وهو من
دمشق ، فحضر عنده ، ونادمه وسقاه سما .
فلما أصبحوا من الغد لم يروا الناصح ، فسألوا عنه ، فقيل : إنه سار من ليلته إلى
صلاح الدين ، فكان هذا مما قوى الظن ، فلما توفي أعطى أقطاعه لولده
شيركوه ، وعمره اثنتا عشرة سنة ، وخلف
ناصر الدين من الأموال والخيل والآلات شيئا كثيرا ، فحضر
صلاح الدين في
حمص واستعرض تركته ، وأخذ أكثرها ولم يترك إلا ما لا خير فيه .
[ ص: 11 ] وبلغني أن
nindex.php?page=showalam&ids=16184شيركوه بن ناصر الدين حضر عند
صلاح الدين ، بعد موت أبيه بسنة ، فقال له : إلى أين بلغت من القرآن ؟ فقال : إلى قوله تعالى :
إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا فعجب
صلاح الدين والحاضرون من ذكائه .