ذكر
مسير الفرنج إلى عكا ومحاصرتها
لما كثر جمع الفرنج
بصور على ما ذكرناه من أن
صلاح الدين كان كلما فتح مدينة أو قلعة أعطى أهلها الأمان ، وسيرهم إليها بأموالهم ونسائهم وأولادهم ، اجتمع بها منهم عالم كثير لا يعد ولا يحصى ، ومن الأموال ما لا يفنى على كثرة الإنفاق في السنين الكثيرة .
ثم إن الرهبان والقسوس وخلقا كثيرا من مشهوريهم ، وفرسانهم لبسوا السواد ، وأظهروا الحزن على خروج
البيت المقدس من أيديهم ، وأخذهم البطرك الذي كان
بالقدس ، ودخل بهم بلاد الفرنج يطوفها بهم جميعا ، ويستنجدون أهلها ، ويستجيرون بهم ، ويحثونهم على الأخذ بثأر
البيت المقدس .
وصوروا
المسيح - عليه السلام - وجعلوه مع صورة عربي يضربه ، وقد جعلوا الدماء على صورة
المسيح - عليه السلام - وقالوا لهم : هذا
المسيح يضربه
محمد نبي المسلمين وقد جرحه وقتله .
فعظم ذلك على الفرنج فحشروا وحشدوا حتى النساء ، فإنهم كان معهم على
عكا عدة من النساء يبارزن الأقران على ما نذكره إن شاء الله تعالى .
ومن لم يستطع الخروج استأجر من يخرج عوضه أو يعطيهم مالا على قدر حالهم . فاجتمع لهم من الرجال والأموال ما لا يتطرق إليه الإحصاء .
ولقد حدثني بعض المسلمين المقيمين
بحصن الأكراد ، وهو من أجناد أصحابه الذين سلموه إلى الفرنج قديما ، وكان هذا الرجل قد ندم على ما كان منه [ من ] موافقة الفرنج في الغارة على بلاد الإسلام ، والقتال معهم ، والسعي معهم ، وكان سبب اجتماعي به ما أذكره سنة تسعين وخمسمائة ، إن شاء الله تعالى .
قال لي هذا الرجل إنه دخل مع جماعة من الفرنج من
حصن الأكراد إلى البلاد البحرية التي للفرنج
والروم في أربع شوان ، يستنجدون قال : فانتهى بنا التطواف إلى
رومية الكبرى ، فخرجنا منها وقد ملأنا الشواني نقرة .
وحدثني بعض الأسرى منهم أنه له والدة ليس لها ولد سواه ، ولا يملكون من
[ ص: 70 ] الدنيا غير بيت باعته وجهزته بثمنه ، وسيرته لاستنقاذ بيت واحد فأخذ أسيرا .
وكان عند الفرنج من الباعث الديني والنفساني ما هذا حده ، فخرجوا على الصعب والذلول ، برا وبحرا ، من كل فج عميق ، ولولا [ أن ] الله تعالى لطف بالمسلمين ، وأهلك ملك
الألمان لما خرج على ما نذكره عند خروجه إلى
الشام ، وإلا كان يقال : إن
الشام ومصر كانتا للمسلمين .
فهذا كان سبب خروجهم فلما اجتمعوا
بصور تموج بعضهم في بعض ، ومعهم الأموال العظيمة ، والبحر يمدهم بالأقوات والذخائر ، والعدد والرجال من بلادهم . فضاقت عليهم
صور باطنها وظاهرها فأرادوا قصد
صيدا وكان ما ذكرناه .
فعادوا واتفقوا على قصد
عكا ومحاصرتها ومصابرتها ، فساروا إليها بفارسهم وراجلهم ، وقضهم وقضيضهم ، ولزموا البحر في مسيرهم لا يفارقونه في السهل والوعر ، والضيق والسعة ، ومراكبهم تسير مقابلهم في البحر فيها سلاحهم وذخائرهم ، ولتكون عدة لهم ، إن جاءهم ما لا قبل لهم به ركبوا فيها وعادوا .
وكان رحيلهم ثامن رجب ، ونزولهم على
عكا في منتصفه ، ولما كانوا سائرين كان يزك المسلمين يتخطفونهم ، ويأخذون المنفرد منهم .
ولما رحلوا جاء الخبر إلى
صلاح الدين برحيلهم ، فسار حتى قاربهم ، ثم جمع أمراءه واستشارهم : هل يكون المسير محاذاة الفرنج ومقاتلتهم وهم سائرون أو يكون في غير الطريق التي سلكوها ؟ فقالوا : لا حاجة بنا إلى احتمال المشقة في مسايرتهم ، فإن الطريق وعر وضيق ولا يتهيأ لنا ما نريده منهم ، والرأي أننا نسير في الطريق المهيع ، ونجتمع عليهم عند
عكا ، فنفرقهم ونمزقهم .
فعلم ميلهم إلى الراحة المعجلة ، فوافقهم ، وكان رأيه مسايرتهم ومقاتلتهم وهم سائرون ، وقال : إن الفرنج إذا نزلوا لصقوا بالأرض ، فلا يتهيأ لنا إزعاجهم ، ولا نيل الغرض منهم ، والرأي قتالهم قبل الوصول إلى
عكا ، فخالفوه فتبعهم ، وساروا على طريق كفر كنا فسبقهم الفرنج .
وكان
صلاح الدين قد جعل في مقابل الفرنج جماعة من الأمراء يسايرونهم ، ويناوشونهم القتال ، ويتخطفونهم ، ولم يقدم الفرنج عليهم مع قلتهم ، فلو أن العساكر اتبعت رأي
صلاح الدين في مسايرتهم ومقاتلتهم قبل نزولهم على
عكا لكان بلغ غرضه وصدهم عنها ، ولكن إذا أراد الله أمرا هيأ أسبابه .
ولما وصل
صلاح الدين إلى
عكا رأى الفرنج قد نزلوا عليها من البحر إلى
[ ص: 71 ] البحر ، من الجانب الآخر ، ولم يبق للمسلمين إليها طريق ، فنزل
صلاح الدين عليهم وضرب خيمته على
تل كيسان ، وامتدت ميمنته إلى
تل العياضية وميسرته إلى النهر الجاري ، ونزلت الأثقال
بصفورية .
وسير الكتب إلى الأطراف باستدعاء العساكر ، فأتاه عسكر
الموصل ،
وديار بكر وسنجار وغيرها من
بلاد الجزيرة ، وأتاه
تقي الدين ابن أخيه ، وأتاه
مظفر الدين بن زين الدين ، وهو صاحب
حران والرها .
وكانت الأمداد تأتي المسلمين في البر وتأتي الفرنج في البحر ، وكان بين الفريقين مدة مقامهم على
عكا حروب كثيرة ما بين صغيرة وكبيرة ، منها اليوم المشهور ، ومنها ما هو دون ذلك ، وأنا أذكر الأيام الكبار لئلا يطول ذلك ، ولأن ما عداها كان قتالا يسيرا من بعضهم مع بعض ، فلا حاجة إلى ذكره .
ولما نزل السلطان عليهم لم يقدر على الوصول إليهم ، ولا إلى
عكا حتى انسلخ رجب ثم قاتلهم مستهل شعبان فلم ينل منهم ما يريد وبات الناس على تعبئة . فلما كان الغد باكرهم القتال بحده وحديده ، واستدار عليهم من سائر جهاتهم من بكرة إلى الظهر ، وصبر الفريقان صبرا حار له من رآه .
فلما كان وقت الظهر حمل عليهم
تقي الدين حملة منكرة من الميمنة على من يليه منهم ، فأزاحهم عن مواقفهم يركب بعضهم بعضا لا يلوي أخ على أخ ، والتجأوا إلى من يليهم من أصحابهم ، واجتمعوا بهم ، واحتموا بهم ، وأخلوا نصف البلد ، وملك
تقي الدين مكانهم ، والتصق بالبلد ، وصار ما أخلوه بيده
ودخل المسلمون البلد وخرجوا منه واتصلت الطرق وزال الحصر عمن فيه ، وأدخل
صلاح الدين إليه من أراد من الرجال ، وما أراد من الذخائر والأموال والسلاح وغير ذلك ولو أن المسلمين لزموا قتالهم إلى الليل لبلغوا ما أرادوه ، فإن للصدمة الأولى روعة ، لكنهم لما نالوا منهم هذا القدر أخلدوا إلى الراحة ، وتركوا القتال وقالوا : نباكرهم غدا ، ونقطع دابرهم .
وكان في جملة من أدخله
صلاح الدين إلى
عكا من جملة الأمراء
حسام الدين أبو الهيجاء السمين ، وهو من أكابر أمراء عسكره ، وهو من
الأكراد الحكمية من بلد
إربل ، وقتل من الفرنج هذا اليوم جماعة كبيرة .