ذكر
مقتل موسى بن عبد الله بن خازم
في هذه السنة قتل
موسى بن عبد الله بن خازم بترمذ .
وكان سبب مصيره إلى
ترمذ أن أباه لما قتل من قتل من
بني تميم ، وقد تقدم ذكر ذلك ، تفرق عنه أكثر من كان معه منهم ، فخرج إلى
نيسابور ، وخاف
بني تميم على ثقله بمرو ، فقال لابنه
موسى : خذ ثقلي ، واقطع نهر بلخ حتى تلتجئ إلى بعض الملوك ، وإلى حصن تقيم فيه . فرحل
موسى عن مرو في عشرين ومائتي فارس ، واجتمع إليه تتمة أربعمائة ، وانضم إليه قوم من بني
سليم ، فأتى زم ، فقاتله أهلها ، فظفر بهم فأصاب مالا ، وقطع النهر وأتى بخارى ، فسأل صاحبها أن يلجأ إليه فأبى . فخافه وقال : رجل فاتك وأصحابه مثله فلا آمنه . ووصله وسار ، فلم يأت ملكا يلجأ إليه إلا كره مقامه عنده ، فأتى
سمرقند فأقام بها ، وأكرمه ملكها
طرخون ، وأذن له في المقام ، وأقام ما شاء الله .
[ ص: 523 ] ولأهل الصغد مائدة يوضع عليها لحم وخل وخبز وإبريق شراب ، وذلك كل عام يوما ، يجعلون ذلك لفارس الصغد ، فلا يقربه غيره ، فإن أكل منه أحد بارزه ، فأيهما قتل صاحبه فالمائدة له . فقال رجل من أصحاب
موسى : ما هذه المائدة ؟ فأخبر ، فجلس فأكل ما عليها ، وقيل لصاحب المائدة فجاء مغضبا وقال : يا عربي بارزني ! فبارزه فقتله صاحب
موسى ، فقال ملك
الصغد : أنزلتكم وأكرمتكم فقتلتم فارسي ، لولا أني آمنتك وأصحابك لقتلتكم ، اخرجوا عن بلدي . فخرجوا .
فأتى كش ، فضعف صاحبها عنه ، فاستنصر
طرخون فأتاه ، فخرج
موسى إليه وقد اجتمع معه سبعمائة فارس ، فقاتلهم حتى أمسوا وتحاجزوا ، وبأصحاب
موسى جراح كثيرة ، فقال
لزرعة بن علقمة : احتل لنا على
طرخون . فأتاه فقال : أيها الملك ، ما حاجتك إلى أن تقتل
موسى وتقتل معه ، فإنك لا تصل إليه حتى يقتلوا [ مثل ] عدتهم منكم ، ولو قتلته وإياهم جميعا ( ما نلت حظا ) ، لأن له قدرا في العرب ، فلا يأتي أحد
خراسان إلا طالبك بدمه . فقال : ليس لي إلى
ترك كش في يده سبيل . قال : فكف عنه حتى يرتحل . فكف .
وسار
موسى فأتى
ترمذ وبها حصن يشرف على جانب النهر ، فنزل
موسى خارج الحصن ، وسأل
ترمذشاه أن يدخله حصنه فأبى ، فأهدى له
موسى ولاطفه حتى حصل بينهما مودة ، وخرج فتصيد معه . فصنع صاحب
ترمذ طعاما ، وأحضر
موسى ليأكل معه ، ولا يحضر إلا في مائة من أصحابه ، فاختار
موسى مائة من أصحابه ، فدخلوا الحصن وأكلوا ، فلما فرغوا قال له : اخرج . قال : لا أخرج حتى يكون الحصن بيتي أو قبري . وقاتلهم فقتل منهم عدة ، وهرب الباقون ، واستولى
موسى عليها ، وأخرج
ترمذشاه منها ولم يعرض له ولا لأصحابه ، فأتوا
الترك يستنصرونهم على
موسى فلم ينصروهم وقالوا : لا نقاتل هؤلاء . وأقام
موسى بترمذ ، فأتاه جمع من أصحاب أبيه فقوي بهم ، فكان يخرج فيغير على ما حوله .
ثم ولي
بكير بن وساج خراسان فلم يعرض له ، ثم قدم
أمية فسار بنفسه يريد مخالفة
بكير فرجع ، على ما تقدم ذكره . ثم إن
أمية وجه إلى
موسى بعد صلح
بكير رجلا من
خزاعة في جمع كثير ، وعاد
أهل ترمذ إلى
الترك ، فاستنصروهم وأعلموهم أنه قد غزاه قوم من العرب وحصروه . فسارت
الترك في جمع كثير إلى
الخزاعي ، فأطاف
بموسى الترك والخزاعي ، فكان يقاتل
الخزاعي أول النهار ، والترك آخر النهار ، فقاتلهم
[ ص: 524 ] شهرين أو ثلاثة . ثم إنه أراد أن يبيت
الخزاعي وعسكره ، فقال له
عمرو بن خالد بن حصين الكلابي : ليكن البيات بالعجم ، فإن العرب أشد حذرا وأجرأ على الليل ، فإذا فرغنا من العجم تفرغنا للعرب .
فأقام حتى ذهب ثلث الليل ، وخرج
موسى في أربعمائة وقال
لعمرو بن خالد : اخرج بعدنا ، فكن أنت ومن معك قريبا ، فإذا سمعتم تكبيرنا فكبروا . ثم سار حتى ارتفع فوق عسكر
الترك ، ورجع إليهم ، وجعل أصحابه أرباعا ، وأقبل إليهم ، فلما رآهم أصحاب الأرصاد قالوا : من أنتم ؟ قالوا : عابرو سبيل . فلما جاوزوا الرصد حملوا على
الترك وكبروا ، فلم يشعر
الترك إلا بوقع السيوف فيهم ، فساروا يقتل بعضهم بعضا وولوا ، فأصيب من المسلمين ستة عشر رجلا ، وحووا عسكرهم وأصابوا سلاحا كثيرا ومالا ، وأصبح
الخزاعي وأصحابه وقد كسرهم ذلك ، فخافوا مثلها ، فقال
nindex.php?page=showalam&ids=16704عمرو بن خالد لموسى : إننا لا نظفر إلا بمكيدة ، ولهم أمدادا ، وهم كثيرون ، فدعني آته لعلي أصيب فرصة ، فاضربني وخلاك ذم . فقال له
موسى : تتعجل الضرب وتتعرض للقتل . قال : أما التعرض للقتل فأنا كل يوم متعرض له ، وأما الضرب فما أيسره في جنب ما أريد . فضربه
موسى خمسين سوطا ، فخرج من عسكر
موسى وأتى عسكر
الخزاعي مستأمنا ، وقال : أنا رجل من
أهل اليمن كنت مع
عبد الله بن خازم ، فلما قتل أتيت ابنه فكنت معه ، وإنه اتهمني وقال : قد تعصبت لعدونا وأنت عين له ، فضربني ولم آمن القتل فهربت منه . فآمنه
الخزاعي وأقام معه ، فدخل يوما وهو خال ولم ير عنده سلاحا ، فقال كأنه ينصح له : أصلح الله الأمير ، إن مثلك في مثل هذه الحال لا ينبغي أن يكون بغير سلاح . قال : إن معي سلاحا . فرفع طرف فراشه فإذا سيف منتضى ، فأخذه
عمرو فضربه حتى قتله ، وخرج فركب فرسه وأتى
موسى ، وتفرق ذلك الجيش ، وأتى بعضهم
موسى مستأمنا فآمنه ، ولم يوجه إليه
أمية أحدا .
وعزل
أمية وقدم
المهلب أميرا ، فلم يتعرض
لموسى وقال لبنيه : إياكم
وموسى ، فإنكم لا تزالون ولاة
خراسان ما دام هذا الثبط بمكانه ، فإن قتل فأول طالع عليكم أمير على
خراسان من
قيس . فلما مات
المهلب وولي
يزيد لم يتعرض أيضا
لموسى .
وكان
المهلب قد ضرب
حريث بن قطبة الخزاعي ، فخرج هو وأخوه
ثابت إلى
موسى ، فلما ولي
nindex.php?page=showalam&ids=17357يزيد بن المهلب أخذ أموالهما وحرمهما ، وقتل أخاهما لأمهما
الحارث بن منقذ ، فخرج
ثابت إلى
طرخون ، فشكا إليه ما صنع به ، وكان
ثابت محبوبا إلى
الترك بعيد الصوت فيهم ، فغضب له
طرخون ، وجمع له
نيزك والسبل
وأهل بخارى والصغانيان ، فقدموا مع ثابت إلى
موسى ، وقد اجتمع إلى
موسى فل
عبد الرحمن بن [ ص: 525 ] العباس من
هراة ، وفل
nindex.php?page=showalam&ids=12582ابن الأشعث من
العراق ، ومن ناحية
كابل ، فاجتمع معه ثمانية آلاف ، فقال له
ثابت وحريث : سر حتى تقطع النهر ، وتخرج
يزيد عن
خراسان ونوليك . فهم أن يفعل ، فقال له أصحابه : إن أخرجت
يزيد عن
خراسان تولى
ثابت وأخوه
خراسان وغلباك عليها . فلم يسر وقال
لثابت وحريث : إن أخرجنا
يزيد قدم عامل
لعبد الملك ، ولكنا نخرج عمال
يزيد عما وراء النهر ويكون لنا ، فأخرجوا عمال
يزيد عما وراء النهر وجبوا الأموال ، فقوي أمرهم ، وانصرف
طرخون ومن معه ، واستبد
ثابت وحريث بتدبير الأمر ، والأمير
موسى ليس له غير الاسم .
فقيل
لموسى : ليس لك من الأمور شيء ، والأمور إلى
ثابت وحريث فاقتلهما وتول الأمر . فأبى ، فألحوا عليه حتى أفسدوا قلبه عليهما ، وهم بقتلهما .
فإنهم لفي ذلك إذ خرج عليهم الهياطلة
والتبت والترك في سبعين ألفا لا يعدون الحاسر ، ولا صاحب البيضة الجماء ، ولا يعدون إلا صاحب بيضة ذات قونس . فخرج ابن خازم وقاتلهم فيمن معه ، ووقف ملك الترك على تل في عشرة آلاف في أكمل عدة ، والقتال أشد ما كان ، فقال
موسى : إن أزلتم هؤلاء فليس الباقون بشيء . فقصد لهم
حريث بن قطبة فقاتلهم وألح عليهم حتى أزالهم عن التل ، ورمي
حريث بنشابة في جبهته ، فتحاجزوا ، فبيتهم
موسى ، وحمل أخوه
خازم بن عبد الله بن خازم حتى وصل إلى شمعة ملكهم ، فوجأ رجلا منهم بقبيعة سيفه ، فطعن فرسه ، فاحتمله الفرس فألقاه في نهر بلخ فغرق ، وقتل من
الترك خلق كثير ، ونجا من نجا منهم بشر ، ومات
حريث بعد يومين .
ورجع
موسى ، وحمل معه الرؤوس فبنى منها جوسقين . وقال أصحاب
موسى : قد كفينا أمر
حريث ، فاكفنا أمر ثابت . فأبى ، وبلغ
ثابتا بعض ما يخوضون فيه ، فدس
محمد بن عبد الله الخزاعي - عم
نصر بن عبد الحميد ، عامل
أبي مسلم على
الري - على
موسى ، وقال : إياك أن تتكلم بالعربية ، وإن سألوك فقل : أنا من سبي الباميان . ففعل ذلك واتصل
بموسى ، وكان يخدمه وينقل إلى
ثابت خبرهم ، فحذر
ثابت ، وألح القوم على
موسى . فقال لهم ليلة : لقد أكثرتم علي وفيما تريدون هلاككم ، فعلى أي وجه تقتلونه ، وأنا لا أغدر به ؟ قال له أخوه
نوح : إذا أتاك غدا عدلنا به إلى بعض الدور ، فضربنا عنقه فيها قبل أن يصل إليك . فقال : والله إنه هلاككم ، وأنتم أعلم .
[ ص: 526 ] فخرج الغلام فأتى
ثابتا فأخبره ، فخرج من ليلته في عشرين فارسا ومضى . وأصبحوا فلم يروه ولم يروا الغلام ، فعلموا أنه كان عينا له .
ونزل
ثابت بحوشرا ، واجتمع إليه خلق كثير من العرب والعجم ، فأقبل
موسى إليه وقاتله ، وتحصن
ثابت بالمدينة ، وأتاه
طرخون معينا له ، فرجع
موسى إلى
ترمذ ، وأقبل
ثابت وطرخون ومعهما
أهل بخارى ونسف وكش ، فاجتمعوا في ثمانين ألفا ، فحصروا
موسى حتى جهد هو وأصحابه ، فلما اشتد عليهم قال
يزيد بن هذيل : والله لأقتلن
ثابتا أو لأموتن . فخرج إلى
ثابت فاستأمنه ، فقال له
ظهير : أنا أعرف بهذا منك ، ما أتاك إلا بغدره فاحذره ، فأخذ ابنيه
قدامة والضحاك رهنا ، فكانا في يد
ظهير .
وأقام
يزيد يلتمس غرة
ثابت فلم يقدر على ما يريد حتى مات ابن
لزياد القصير الخزاعي ، فخرج
ثابت إليه ليعزيه وهو بغير سلاح وقد غابت الشمس ، فدنا
يزيد من
ثابت فضربه على رأسه ، فوصل إلى الدماغ وهرب فسلم ، وأخذ
طرخون قدامة والضحاك ابني
يزيد فقتلهما ، وعاش
ثابت سبعة أيام ومات ، وقام بأمر العجم بعد موت
ثابت طرخون ، وقام
ظهير بأمر أصحاب
ثابت ، فقاما قياما ضعيفا ، وانتشر أمرهم وأجمع
موسى على بياتهم ، فأخبر
طرخون بذلك فضحك ، وقال :
موسى يعجز أن يدخل متوضأه ، فكيف يبيتنا ؟ لا يحرس الليلة أحد .
فخرج
موسى في ثمانمائة وجعلهم أرباعا وبيتهم ، وكان لا يمر بشيء إلا ضربوه ، من رجل ودابة وغير ذلك ، فلبس
نيزك سلاحه ووقف ، وأرسل
طرخون إلى
موسى أن كف أصحابك ، فإنا نرحل إذا أصبحنا . فرجع
موسى وارتحل
طرخون والعجم جميعا .
فكان
أهل خراسان يقولون : ما رأينا مثل
موسى ولا سمعنا به ، قاتل مع أبيه سنتين ، ثم خرج يسير في بلاد
خراسان ، فأتى ملكا فغلب على مدينته وأخرجه منها ، وسار الجنود من العرب
والترك إليه ، وكان يقاتل العرب أول النهار
والترك آخر النهار .
وأقام
موسى في الحصن خمس عشرة سنة ، وصار ما وراء النهر
لموسى لا ينازعه فيه أحد .
فلما عزل
nindex.php?page=showalam&ids=17357يزيد بن المهلب وولي
المفضل أراد أن يحظى عند
الحجاج بقتال
موسى بن عبد الله ، فسير
عثمان بن مسعود إليه في جيش ، وكتب إلى
مدرك بن المهلب وهو
ببلخ يأمره بالمسير معه ، فعبر النهر في خمسة عشر ألفا ، فكتب إلى السبل وإلى
[ ص: 527 ] طرخون فقدموا عليه ، فحصروا
موسى وضيقوا عليه وعلى أصحابه .
فمكث شهرين في ضيق ، وقد خندق
عثمان عليه وحذر البيات ، فقال
موسى لأصحابه : اخرجوا بنا ، حتى متى نصبر ، فاجعلوا يومكم معهم إما ظفرتم وإما قتلتم ، واقصدوا
الترك . فخرجوا وخلف
النضر بن سليمان بن عبد الله بن خازم في
المدينة ، وقال له : إن قتلت فلا تدفعن
المدينة إلى
عثمان ، وادفعها إلى
مدرك بن المهلب . وخرج وجعل ثلث أصحابه بإزاء
عثمان ، وقال : لا تقاتلوه إلا أن يقاتلكم . وقصد
لطرخون وأصحابه فصدقوهم القتال ، فانهزم
طرخون وأخذوا عسكرهم ، وزحفت
الترك والصغد فحالوا بين
موسى والحصن ، فقاتلهم ، فعقروا فرسه فسقط ، فقال لمولى له : احملني ، فقال : الموت كريه ، ولكن ارتدف ، فإن نجونا نجونا جميعا ، وإن هلكنا هلكنا جميعا . قال : فارتدف ، فلما نظر إليه
عثمان حين وثب قال : وثبة
موسى ورب الكعبة ! وقصد إلى
موسى ، وعقرت دابة
موسى فسقط هو ومولاه ، فقتلوه ، ونادى منادي
عثمان : من لقيتموه فخذوه أسيرا ، ولا تقتلوا أحدا .
فقتل ذلك اليوم من الأسرى خلقا كثيرا من العرب خاصة ، فكان يقتل العرب ، ويضرب المولى ويطلقه ، وكان فظا غليظا .
وكان الذي أجهز على
موسى واصل بن طيسلة العنبري .
وبقيت
المدينة بيد
النضر بن سليمان ، فلم يدفعها إلى
عثمان ، وسلمها إلى
مدرك بن المهلب وآمنه ، فسلمها
مدرك إلى
عثمان . وكتب
المفضل إلى
الحجاج بقتل
موسى فقال : العجب منه ! أكتب إليه بقتل
ابن سبرة فيكتب إلي أنه لمآبه ، ويكتب إلي أنه قد قتل
موسى بن عبد الله بن خازم . ولم يسره قتل
موسى لأنه من
قيس .
وقتل
موسى سنة خمس وثمانين ، وضرب رجل من الجند ساق
موسى ، فلما ولي
قتيبة قال : ما دعاك إلى ما صنعت بفتى العرب بعد موته ؟ قال : كان قتل أخي . فأمر به فقتل .