[ ص: 274 ] ذكر
ولادة المسيح ، عليه السلام ونبوته إلى آخر أمره
كانت ولادة
المسيح أيام ملوك الطوائف . قالت
المجوس : كان ذلك بعد خمس وستين سنة من غلبة
الإسكندر على أرض
بابل ، وبعد إحدى وخمسين سنة مضت من ملك
الأشكانيين . وقالت
النصارى : إن ولادته كانت لمضي ثلاثمائة وثلاث وستين سنة من وقت غلبة
الإسكندر على أرض
بابل ، وزعموا أن مولد
يحيى كان قبل مولد
المسيح بستة أشهر ، وأن
مريم ، عليها السلام ، حملت
بعيسى ولها ثلاث عشرة سنة ، وقيل خمس عشرة ، وقيل : عشرون ، وأن
عيسى عاش إلى أن رفع اثنتين وثلاثين سنة وأياما ، وأن
مريم عاشت بعده ست سنين ، فكان جميع عمرها إحدى وخمسين سنة ، وأن
يحيى قتل قبل أن يرفع
المسيح ، وأتت
المسيح النبوة والرسالة وعمره ثلاثون سنة .
وقد ذكرنا حال
مريم في خدمة الكنيسة ، وكانت هي وابن عمها
يوسف بن يعقوب بن ماثان النجار يليان خدمة الكنيسة ، وكان
يوسف حكيما نجارا يعمل بيديه ويتصدق بذلك .
وقالت
النصارى : إن
مريم كان قد تزوجها
يوسف ابن عمها إلا أنه لم يقربها إلا بعد رفع
المسيح ، والله أعلم .
وكانت
مريم إذا نفد ماؤها وماء
يوسف ابن عمها أخذ كل واحد منهما قلته
[ ص: 275 ] وانطلق إلى المغارة التي فيها الماء يستعذبان منه ثم يرجعان إلى الكنيسة ، فلما كان اليوم الذي لقيها فيه
جبريل نفد ماؤها فقالت
ليوسف ليذهب معها إلى الماء ، فقال : عندي من الماء ما يكفيني إلى غد ، فأخذت قلتها وانطلقت وحدها حتى دخلت المغارة ، فوجدت
جبرائيل قد مثله الله لها بشرا سويا ، فقال لها : يا
مريم إن الله قد بعثني إليك لأهب لك غلاما زكيا .
قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا أي مطيعا لله ، وقيل : هو اسم رجل بعينه ، وتحسبه رجلا ،
قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا - أي زانية -
قال كذلك قال ربك ، إلى قوله
أمرا مقضيا
فلما قال ذلك استسلمت لقضاء الله ، ونفخ في جيب درعها ثم انصرف عنها وقد حملت
بالمسيح ، وملأت قلتها وعادت ، وكان لا يعلم في أهل زمانها أعبد منها ومن ابن عمها
يوسف النجار ، وكان معها ، وهو أول من أنكر حملها ، فلما رأى الذي بها استعظمه ولم يدر على ماذا يضع ذلك منها ، فإذا أراد يتهمها ذكر صلاحها وأنها لم تغب عنه ساعة قط ، وإذا أراد يبرئها رأى الذي بها ، فلما اشتد ذلك عليه كلمها فكان أول كلامه لها أن قال لها : إنه قد وقع من أمرك شيء قد حرصت على أن أميته وأكتمه فغلبني . فقالت : قل قولا جميلا . فقال : حدثيني هل ينبت زرع بغير بذر ؟ قالت : نعم . قال : فهل ينبت شجر بغير غيث يصيبه ؟ قالت : نعم . قال : فهل يكون ولد بغير ذكر ؟ قالت له : نعم ، ألم تعلم أن الله أنبت الزرع يوم خلقه بغير بذر ! ألم تعلم أن الله خلق الشجر من غير مطر ! وأنه جعل بتلك القدرة الغيث حياة للشجر بعدما خلق كل واحد منهما وحده ! أو تقول لن يقدر الله على أن ينبت حتى يستعين بالبذر والمطر ! قال
يوسف : لا أقول هكذا ولكني أقول إن الله يقدر على ما يشاء ، إنما يقول لذلك كن فيكون . قالت له : ألم تعلم أن الله خلق
آدم وحواء من غير ذكر ولا أنثى ! قال : بلى ، فلما قالت له ذلك وقع في نفسه أن الذي بها شيء من الله لا يسعه أن يسألها عنه لما رأى من كتمانها له .
[ ص: 276 ] وقيل : إنها خرجت إلى جانب الحجرات لحيض أصابها فاتخذت من دونهم حجابا من الجدران ، فلما طهرت إذا برجل معها ، وذكر الآيات ، فلما حملت أتتها خالتها امرأة
زكرياء ليلة تزورها ، فلما فتحت لها الباب التزمتها ، فقالت امرأة
زكرياء : إني حبلى . فقالت لها
مريم : وأنا أيضا حبلى . قالت امرأة
زكرياء : فإني وجدت ما في بطني يسجد لما في بطنك .
وولدت امرأة
زكرياء يحيى . وقد اختلف في مدة حملها ، فقيل : تسعة أشهر ، وهو قول
النصارى ، وقيل ثمانية أشهر ، فكان ذلك آية أخرى لأنه لم يعش مولود لثمانية أشهر غيره ، وقيل : ستة أشهر ، وقيل ثلاث ساعات ، وقيل : ساعة واحدة ، وهو أشبه بظاهر القرآن العزيز لقوله تعالى :
فحملته فانتبذت به مكانا قصيا عقبة بالفاء .
فلما أحست
مريم خرجت إلى جانب المحراب الشرقي فأتت أقصاه فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت - وهي تطلق من الحبل استحياء من الناس - يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا ، يعني نسي ذكري وأثري فلا يرى لي أثر ولا عين . قالت
مريم : كنت إذا خلوت حدثني
عيسى وحدثته ، فإذا كان عندنا إنسان سمعت تسبيحه في بطني . فناداها
جبرائيل من تحتها - أي من أسفل الجبل - أن لا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا وهو النهر الصغير ، أجراه تحتها ، فمن قرأ : من تحتها ، بكسر الميم ، جعل المنادي
جبرائيل ، ومن فتحها قال إنه
عيسى ، أنطقه الله ،
[ ص: 277 ] وهزي إليك بجذع النخلة ، كان جذعا مقطوعا فهزته فإذا هو نخلة ، وقيل : كان مقطوعا فلما أجهدها الطلق احتضنته فاستقام واخضر وأرطب ، فقيل لها :
وهزي إليك بجذع النخلة فهزته فتساقط الرطب فقال لها :
فكلي واشربي وقري عينا فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا ، وكان من صام في ذلك الزمان لا يتكلم حتى يمسي .
فلما ولدته ذهب إبليس فأخبر
بني إسرائيل أن
مريم قد ولدت ، فأقبلوا يشتدون بدعوتها ، فأتت به قومها تحمله
وقيل : إن
يوسف النجار تركها في مغارة أربعين يوما ثم جاء بها إلى أهلها ، فلما رأوها قالوا لها :
يامريم لقد جئت شيئا فريا ياأخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا فما بالك أنت ؟ وكان من نسل
هارون أخي
موسى ، كذا قيل .
قلت : إنها ليست من نسل
هارون إنما هي من سبط
يهوذا بن يعقوب من نسل
سليمان بن داود ، وإنما كانوا يدعون بالصالحين ،
وهارون من ولد
لاوي بن يعقوب .
قالت لهم ما أمرها الله به ، فلما أرادوها بعد ذلك على الكلام فأشارت إليه ، فغضبوا وقالوا : لسخريتها بنا أشد علينا من زنائها .
قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا ، فتكلم
عيسى فقال :
إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا . فكان أول ما تكلم به العبودية ليكون أبلغ في الحجة على من يعتقد أنه إله .
[ ص: 278 ] وكان قومها قد أخذوا الحجارة ليرجموها ، فلما تكلم ابنها تركوها . ثم لم يتكلم بعدها حتى كان بمنزلة غيره من الصبيان ، وقال
بنو إسرائيل : ما أحبلها غير
زكرياء فإنه هو الذي كان يدخل عليها ويخرج من عندها ، فطلبوه ليقتلوه ، ففر منهم ، ثم أدركوه فقتلوه .
وقيل في سبب قتله غير ذلك ، وقد تقدم ذكره .
وقيل : إنه لما دنا نفاسها أوحى الله إليها : أن اخرجي من أرض قومك فإنهم إذا ظفروا بك عيروك وقتلوك وولدك . فاحتملها
يوسف النجار وسار بها إلى أرض
مصر ، فلما وصلا إلى تخوم
مصر أدركها المخاض ، فلما وضعت وهي محزونة قيل لها : لا تحزني الآية إلى ( إنسيا ) ، فكان الرطب يتساقط عليها وذلك في الشتاء ، وأصبحت الأصنام منكوسة على رءوسها ، وفزعت الشياطين فجاءوا إلى إبليس ، فلما رأى جماعتهم سألهم فأخبروه ، فقال : قد حدث في الأرض حادث ، فطار عند ذلك وغاب عنهم فمر بالمكان الذي ولد فيه
عيسى فرأى الملائكة محدقين فيه ، فعلم أن الحدث فيه ، ولم تمكنه الملائكة من الدنو من
عيسى ، فعاد إلى أصحابه وأعلمهم بذلك وقال لهم : ما ولدت امرأة إلا وأنا حاضر ، وإني لأرجو أن أضل به أكثر ممن يهتدي .
واحتملته
مريم إلى أرض
مصر فمكثت اثنتي عشرة سنة تكتمه من الناس ، فكانت تلتقط السنبل والمهد في منكبيها .
قلت : والقول الأول في ولادته بأرض قومها للقرآن أصح لقوله تعالى :
فأتت به قومها تحمله ، وقوله
كيف نكلم من كان في المهد صبيا .
وقيل : إن
مريم حملت
المسيح إلى
مصر بعد ولادته ومعها
يوسف النجار ، وهي الربوة التي ذكرها الله تعالى ، وقيل : الربوة
دمشق ، وقيل : بيت
المقدس ، وقيل غير ذلك ، فكان سبب ذلك الخوف من ملك
بني إسرائيل ، وكان من
الروم ، واسمه
[ ص: 279 ] هيرودس ، فإن
اليهود أغروه بقتله ، فساروا إلى
مصر وأقاموا بها اثنتي عشرة سنة إلى أن مات ذلك الملك ، وعادوا إلى
الشام ، وقيل : إن
هيرودس لم يرد قتله ولم يسمع به إلا بعد رفعه ، وإنما خافوا
اليهود عليه ، والله أعلم .