صفحة جزء
ذكر بيعة الوليد بن يزيد بن عبد الملك

قيل : وكانت بيعته لست مضين من شهر ربيع الآخر من السنة ، وقد تقدم عقد أبيه ولاية العهد له بعد أخيه هشام بن عبد الملك ، وكان الوليد حين جعل ولي عهد بعد هشام ( ابن ) إحدى عشرة سنة ، ثم عاش من بعد ذلك فبلغ الوليد خمس عشرة ( سنة ) ، فكان يزيد يقول : الله بيني وبين من جعل هشاما بيني وبينك ، فلما ولي هشام أكرم الوليد بن يزيد حتى ظهر من الوليد مجون وشرب الشراب ، وكان يحمله على ذلك [ ص: 285 ] عبد الصمد بن عبد الأعلى مؤدبه ، واتخذ له ندماء ، فأراد هشام أن يقطعهم عنه فولاه الحج سنة ست عشرة ومائة ، فحمل معه كلابا في صناديق وعمل قبة على قدر الكعبة ليضعها على الكعبة ، وحمل معه الخمر ، وأراد أن ينصب القبة على الكعبة ويشرب فيها الخمر ، فخوفه أصحابه وقالوا : لا نأمن الناس عليك وعلينا معك . فلم يفعل .

وظهر للناس منه تهاون بالدين واستخفاف ، فطمع هشام في البيعة لابنه مسلمة وخلع الوليد ، وأراد الوليد على ذلك ، فأبى ، فقال له : اجعله بعدك ، فأبى ، فتنكر له هشام وأضر به وعمل سرا في البيعة لابنه مسلمة ، فأجابه قوم ، وكان ممن أجابه خالاه محمد وإبراهيم ابنا هشام بن إسماعيل ، وبنو القعقاع بن خليد العبسي ، وغيرهم من خاصته ، فأفرط الوليد في الشراب وطلب اللذات ، فقال له هشام : ويحك يا وليد ، والله ما أدري أعلى الإسلام أنت أم لا ! ما تدع شيئا من المنكر إلا أتيته غير متحاش ، فكتب إليه الوليد :

يا أيها السائل عن ديننا نحن على دين أبي شاكر     نشربها صرفا وممزوجة
بالسخن أحيانا وبالفاتر

فغضب هشام على ابنه مسلمة ، وكان يكنى أبا شاكر ، وقال له : يعيرني الوليد بك وأنا أرشحك للخلافة ! فألزمه الأدب وأحضره الجماعة وولاه الموسم سنة تسع عشرة ومائة ، فأظهر النسك واللين ، ثم إنه قسم بمكة والمدينة أموالا ، فقال مولى لأهل المدينة :

يا أيها السائل عن ديننا     نحن على دين أبي شاكر
الواهب الجرد بأرسانها     ليس بزنديق ولا كافر



يعرض بالوليد .

وكان هشام يعيب الوليد وينتقصه ويقصر به ، فخرج الوليد ومعه ناس من خاصته ومواليه فنزل بالأزرق على ماء له بالأردن ، وخلف كاتبه عياض بن مسلم عند هشام ليكاتبه بما عندهم ، وقطع هشام عن الوليد ما كان يجرى عليه ، وكاتبه الوليد فلم يجبه [ ص: 286 ] إلى رده ، وأمره بإخراج عبد الصمد من عنده ، وأخرجه ، وسأله أن يأذن لابن سهيل بالخروج إليه ، فضرب هشام ابن سهيل وسيره ، وأخذ عياض بن مسلم كاتب الوليد فضربه وحبسه ، فقال الوليد : من يثق بالناس ومن يصنع المعروف ! هذا الأحول المشئوم قدمه أبي على أهل بيته ، وصيره ولي عهده ثم يصنع بي ما ترون ؟ لا يعلم أن لي في أحد هوى إلا عبث به ! وكتب إلى هشام في ذلك يعاتبه ويسأله أن يرد عليه كاتبه ، فلم يرده ، فكتب إليه الوليد :

رأيتك تبني دائما في قطيعتي     ولو كنت ذا حزم لهدمت ما تبني
تثير على الباقين مجنى ضغينة     فويل لهم إن مت من شر ما تجني
كأني بهم والليت أفضل قولهم     ألا ليتنا والليت إذ ذاك لا يغني
كفرت يدا من منعم لو شكرتها     جزاك بها الرحمن ذو الفضل والمن


فلم يزل الوليد مقيما في تلك البرية حتى مات هشام ، فلما كان صبيحة اليوم الذي جاءته فيه الخلافة قال لأبي الزبير المنذر بن أبي عمرو : ما أتت علي ليلة منذ عقلت عقلي أطول من هذه الليلة ! عرضت لي هموم وحدثت نفسي فيها بأمور من أمر هذا الرجل ، يعني هشاما ، قد أولع بي ، فاركب بنا نتنفس . فركبا وسارا ميلين ، ووقف على كثيب فنظر إلى رهج فقال : هؤلاء رسل هشام ، نسأل الله من خيرهم ، إذ بدا رجلان على البريد أحدهما مولى لأبي محمد السفياني والآخر جردبة ، فلما قربا نزلا يعدوان حتى دنوا منه فسلما عليه بالخلافة ، فوجم ثم قال : أمات هشام ؟ قالا : نعم ، والكتاب معنا [ ص: 287 ] من سالم بن عبد الرحمن صاحب ديوان الرسائل . فقرأه وسأل مولى أبي محمد السفياني عن كاتبه عياض ، فقال : لم يزل محبوسا حتى نزل بهشام الموت ، فأرسل إلى الخزان وقال : احتفظوا بما في أيديكم ، فأفاق هشام فطلب شيئا فمنعوه ، فقال : إنا لله ، كنا خزانا للوليد ! ومات من ساعته ، وخرج عياض من السجن ، فختم أبواب الخزائن وأنزل هشاما عن فرشه ، وما وجدوا له قمقما يسخن له فيه الماء حتى استعاروه ، ولا وجدوا كفنا من الخزائن فكفنه غالب مولاه ، فقال :

هلك الأحول المشو     م فقد أرسل المطر
وملكنا من بعد ذا     ك فقد أورق الشجر
فاشكروا الله إنه     زائد كل من شكر


وقيل : إن هذا الشعر لغير الوليد .

فلما سمع الوليد موته كتب إلى العباس ( بن الوليد ) بن عبد الملك بن مروان أن يأتي الرصافة ، فيحصي ما فيها من أموال هشام وولده ، ويأخذ عماله وحشمه إلا مسلمة بن هشام فإنه كلم أباه في الرفق بالوليد . فقدم العباس الرصافة ففعل ما كتب به الوليد إليه ، وكتب به إلى الوليد ، فقال الوليد :

ليت هشاما كان حيا يرى     محلبه الأوفر قد أترعا


ويروى :

ليت هشاما عاش حتى يرى     مكياله الأوفر قد طبعا
كلناه بالصاع الذي كاله     وما ظلمناه به إصبعا
[ ص: 288 ] وما أتينا ذاك عن بدعة     أحله الفرقان لي أجمعا


وضيق على أهل هشام وأصحابه ، فجاء خادم لهشام فوقف عند قبره وبكى وقال : يا أمير المؤمنين لو رأيت ما يصنع بنا الوليد . فقال بعض من هناك : لو رأيت ما صنع بهشام لعلمت أنك في نعمة لا تقوم بشكرها ! إن هشاما في شغل مما هو فيه عنكم .

واستعمل الوليد العمال ، وكتب إلى الآفاق بأخذ البيعة ، فجاءته بيعتهم ، وكتب إليه مروان بن محمد ببيعته واستأذنه في القدوم عليه . فلما ولي الوليد أجرى على زمنى أهل الشام وعميهم وكساهم ، وأمر لكل إنسان منهم بخادم ، وأخرج لعيالات الناس الطيب والكسوة وزادهم ، وزاد الناس في العطاء عشرات ، ثم زاد أهل الشام بعد العشرات عشرة عشرة ، وزاد الوفود ، ولم يقل في شيء يسأله لا وقال :

ضمنت لكم إن لم تعقني عوائق     بأن سماء الضر عنكم ستقلع
سيوشك إلحاق معا وزيادة     وأعطية مني عليكم تبرع
محرمكم ديوانكم وعطاؤكم     به تكتب الكتاب شهرا وتطبع


قال حلم الوادي المغني : كنا مع الوليد وأتاه خبر موت هشام وهنئ بولاية الخلافة ، وأتاه القضيب والخاتم ، ثم قال : فأمسكنا ساعة ونظرنا إليه بعين الخلافة ، فقال : غنوني : [ ص: 289 ]

طاب يومي ولذ شرب السلافه     وأتانا نعي من بالرصافه
وأتانا البريد ينعي هشاما     وأتانا بخاتم للخلافه
فاصطبحنا من خمر عانة صرفا     ولهونا بقينة عرافه


وحلف أن لا يبرح من موضعه حتى يغنى في هذا الشعر ويشرب عليه ففعلنا ذلك ، ولم نزل نغني إلى الليل .

ثم إن الوليد هذه السنة عقد لابنيه الحكم وعثمان البيعة من بعده وجعلهما وليي عهده ، أحدهما بعد الآخر ، وجعل الحكم مقدما ، وكتب بذلك إلى الأمصار العراق وخراسان .

التالي السابق


الخدمات العلمية