فصل
وأما تحريم
بيع الميتة ، فيدخل فيه كل ما يسمى ميتة ، سواء مات حتف أنفه ، أو ذكي ذكاة لا تفيد حله . ويدخل فيه أبعاضها أيضا ، ولهذا استشكل الصحابة - رضي الله عنهم - تحريم
بيع الشحم ، مع ما لهم فيه من المنفعة ، فأخبرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه حرام ، وإن كان فيه ما ذكروا من المنفعة وهذا موضع اختلف الناس فيه ؛ لاختلافهم في فهم مراده - صلى الله عليه وسلم - وهو أن قوله : (
لا ، هو حرام ) هل هو عائد إلى البيع ، أو عائد إلى الأفعال التي سألوا عنها ؟ فقال شيخنا : هو راجع إلى البيع ؛ فإنه - صلى الله عليه وسلم - لما أخبرهم أن الله حرم بيع الميتة ، قالوا : إن في شحومها من المنافع كذا وكذا ، يعنون فهل ذلك مسوغ لبيعها ؟ فقال : (
لا ، هو حرام ) .
قلت : كأنهم طلبوا تخصيص الشحوم من جملة الميتة بالجواز ، كما طلب
العباس - رضي الله عنه - تخصيص الإذخر من جملة
تحريم نبات الحرم بالجواز ، فلم يجبهم إلى ذلك ، فقال : (
لا ، هو حرام ) .
وقال غيره من أصحاب
أحمد وغيرهم : التحريم عائد إلى الأفعال المسؤول عنها ، وقال : هو حرام ، ولم يقل : هي ؛ لأنه أراد المذكور جميعه ويرجح قولهم عود الضمير إلى أقرب مذكور ، ويرجحه من جهة المعنى أن إباحة هذه الأشياء
[ ص: 665 ] ذريعة إلى اقتناء الشحوم وبيعها ، ويرجحه أيضا : أن في بعض ألفاظ الحديث ، فقال : (
لا ، هي حرام ) ، وهذا الضمير إما أن يرجع إلى الشحوم ، وإما إلى هذه الأفعال ، وعلى التقديرين ، فهو حجة على تحريم الأفعال التي سألوا عنها .
ويرجحه أيضا قوله في حديث
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة - رضي الله عنه -
nindex.php?page=hadith&LINKID=16003691في الفأرة التي وقعت في السمن : ( إن كان جامدا فألقوها وما حولها ، وكلوه وإن كان مائعا فلا تقربوه ) . وفي الانتفاع به في الاستصباح وغيره قربان له . ومن رجح الأول يقول : ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=16003692إنما حرم من الميتة أكلها ) وهذا صريح في أنه لا يحرم الانتفاع بها في غير الأكل ، كالوقيد ، وسد البثوق ، ونحوهما . قالوا :
والخبيث إنما تحرم ملابسته باطنا وظاهرا ، كالأكل واللبس ، وأما الانتفاع به من غير ملابسة فلأي شيء يحرم ؟ .
قالوا : ومن تأمل سياق حديث
جابر ، علم أن السؤال إنما كان منهم عن البيع ، وأنهم طلبوا منه أن يرخص لهم في بيع الشحوم ، لما فيها من المنافع ، فأبى عليهم ، وقال : ( هو حرام ) ، فإنهم لو سألوه عن حكم هذه الأفعال ، لقالوا : أرأيت شحوم الميتة ، هل يجوز أن يستصبح بها الناس ، وتدهن بها الجلود ؟ ولم يقولوا : فإنه يفعل بها كذا وكذا ، فإن هذا إخبار منهم ، لا سؤال ، وهم لم يخبروه بذلك عقيب تحريم هذه الأفعال عليهم ؛ ليكون قوله : ( لا هو حرام ) صريحا في تحريمها ، وإنما أخبروه به عقيب تحريم بيع الميتة ، فكأنهم طلبوا منه أن يرخص لهم في بيع الشحوم لهذه المنافع التي ذكروها ، فلم يفعل . ونهاية الأمر أن الحديث يحتمل الأمرين ، فلا يحرم ما لم يعلم أن الله ورسوله حرمه .
قالوا : وقد ثبت عنه أنه نهاهم عن الاستسقاء من
آبار ثمود ، وأباح لهم أن
[ ص: 666 ] يطعموا ما عجنوا منه من تلك الآبار للبهائم ، قالوا : ومعلوم أن إيقاد النجاسة والاستصباح بها انتفاع خال عن هذه المفسدة ، وعن ملابستها باطنا وظاهرا ، فهو نفع محض لا مفسدة فيه . وما كان هكذا ، فالشريعة لا تحرمه ، فإن الشريعة إنما تحرم المفاسد الخالصة أو الراجحة وطرقها وأسبابها الموصلة إليها .
قالوا : وقد أجاز
أحمد في إحدى الروايتين
الاستصباح بشحوم الميتة إذا خالطت دهنا طاهرا ، فإنه في أكثر الروايات عنه يجوز
الاستصباح بالزيت النجس ، وطلي السفن به ، وهو اختيار طائفة من أصحابه ، منهم : الشيخ
أبو محمد ، وغيره ، واحتج بأن
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر أمر أن يستصبح به .
وقال في رواية ابنيه :
صالح وعبد الله : لا يعجبني
بيع النجس ، ويستصبح به إذا لم يمسوه ، لأنه نجس ، وهذا يعم النجس ، والمتنجس ، ولو قدر أنه إنما أراد به المتنجس ، فهو صريح في القول بجواز الاستصباح بما خالطه نجاسة ميتة أو غيرها ، وهذا مذهب
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ، وأي فرق بين الاستصباح بشحم الميتة إذا كان منفردا ، وبين الاستصباح به إذا خالطه دهن طاهر فنجسه ؟ .
فإن قيل : إذا كان مفردا ، فهو نجس العين ، وإذا خالطه غيره تنجس به ، فأمكن تطهيره بالغسل ، فصار كالثوب النجس ، ولهذا يجوز
بيع الدهن المتنجس على أحد القولين دون دهن الميتة .
قيل : لا ريب أن هذا هو الفرق الذي عول عليه المفرقون بينهما ، ولكنه ضعيف لوجهين .
[ ص: 667 ] أحدهما : أنه لا يعرف عن الإمام
أحمد ، ولا عن
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي البتة غسل الدهن النجس ، وليس عنهم في ذلك كلمة واحدة ، وإنما ذلك من فتوى بعض المنتسبين ، وقد روي عن
مالك أنه يطهر بالغسل ، هذه رواية
ابن نافع ،
وابن القاسم عنه .
الثاني : أن هذا الفرق وإن تأتى لأصحابه في الزيت والشيرج ونحوهما ، فلا يتأتى لهم في جميع الأدهان ، فإن منها ما لا يمكن غسله ،
وأحمد nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي قد أطلقا القول بجواز الاستصباح بالدهن النجس من غير تفريق .
وأيضا فإن هذا الفرق لا يفيد في دفع كونه مستعملا للخبيث والنجاسة ، سواء كانت عينية أو طارئة ، فإنه إن حرم الاستصباح به لما فيه من استعمال الخبيث ، فلا فرق ، وإن حرم لأجل دخان النجاسة ، فلا فرق ، وإن حرم لكون الاستصباح به ذريعة إلى اقتنائه ، فلا فرق ، فالفرق بين المذهبين في جواز الاستصباح بهذا دون هذا لا معنى له .
وأيضا فقد جوز جمهور العلماء
الانتفاع بالسرقين النجس في عمارة الأرض للزرع ، والثمر ، والبقل مع نجاسة عينه ، وملابسة المستعمل له أكثر من ملابسة الموقد ، وظهور أثره في البقول والزروع ، والثمار ، فوق ظهور أثر الوقيد ، وإحالة النار أتم من إحالة الأرض ، والهواء والشمس للسرقين ، فإن كان
التحريم لأجل دخان النجاسة ، فمن سلم أن دخان النجاسة نجس ، وبأي كتاب ، أم بأية سنة ثبت ذلك ؟ وانقلاب النجاسة إلى الدخان أتم من انقلاب عين السرقين والماء النجس ثمرا أو زرعا ، وهذا أمر لا يشك فيه ، بل معلوم بالحس والمشاهدة ، حتى جوز بعض أصحاب
مالك ،
nindex.php?page=showalam&ids=11990وأبي حنيفة - رحمهما الله - بيعه ، فقال
nindex.php?page=showalam&ids=12873ابن الماجشون : لا بأس ببيع العذرة ؛ لأن ذلك من منافع الناس . وقال
ابن القاسم : لا بأس ببيع الزبل . قال
اللخمي : وهذا يدل من قوله على أنه يرى
بيع العذرة . وقال
أشهب في الزبل : المشتري أعذر فيه من البائع ، يعني في اشترائه . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16991ابن عبد الحكم : لم
[ ص: 668 ] يعذر الله واحدا منهما ، وهما سيان في الإثم .
قلت : وهذا هو الصواب ، وأن بيع ذلك حرام وإن جاز الانتفاع به ، والمقصود أنه لا يلزم من
تحريم بيع الميتة تحريم الانتفاع بها في غير ما حرم الله ورسوله منها ، كالوقيد وإطعام الصقور والبزاة وغير ذلك . وقد نص
مالك على جواز
الاستصباح بالزيت النجس في غير المساجد ، وعلى جواز عمل الصابون منه ، وينبغي أن يعلم أن باب الانتفاع أوسع من باب البيع ، فليس كل ما حرم بيعه حرم الانتفاع به ، بل لا تلازم بينهما ، فلا يؤخذ تحريم الانتفاع من تحريم البيع .