ومن هذا
اختياره سبحانه وتعالى من الأماكن والبلاد خيرها وأشرفها ، وهي البلد الحرام ، فإنه سبحانه وتعالى اختاره لنبيه صلى الله عليه وسلم ، وجعله مناسك لعباده ، وأوجب عليهم الإتيان إليه من القرب والبعد من كل فج عميق ، فلا يدخلونه إلا متواضعين متخشعين متذللين كاشفي رءوسهم متجردين عن لباس أهل الدنيا ، وجعله حرما آمنا لا يسفك فيه دم ، ولا تعضد به شجرة ،
[ ص: 48 ] ولا ينفر له صيد ، ولا يختلى خلاه ، ولا تلتقط لقطته للتمليك بل للتعريف ليس إلا ، وجعل قصده مكفرا لما سلف من الذنوب ، ماحيا للأوزار ، حاطا للخطايا ، كما في " الصحيحين " عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=16000010من أتى هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه ) ، ولم يرض لقاصده من الثواب دون الجنة ، ففي " السنن " من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=10عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=16000011تابعوا بين الحج والعمرة ، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة ، وليس للحجة المبرورة ثواب دون الجنة ) . وفي " الصحيحين " عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=16000012العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما ، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة ) ، فلو لم يكن البلد الأمين خير بلاده ، وأحبها إليه ، ومختاره من البلاد ؛ لما جعل عرصاتها مناسك لعباده فرض عليهم قصدها ، وجعل ذلك من آكد فروض الإسلام ، وأقسم به في كتابه العزيز في موضعين منه فقال تعالى : (
وهذا البلد الأمين ) [ التين : 3 ] ، وقال تعالى : ( لا أقسم )
[ ص: 49 ] ( بهذا البلد ) [ البلد : 1 ] ، وليس على وجه الأرض بقعة يجب على كل قادر السعي إليها والطواف بالبيت الذي فيها غيرها ، وليس على وجه الأرض موضع يشرع تقبيله واستلامه ، وتحط الخطايا والأوزار فيه غير الحجر الأسود ، والركن اليماني . وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن
الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة ، ففي " سنن
nindex.php?page=showalam&ids=15397النسائي " و" المسند " بإسناد صحيح عن
عبد الله بن الزبير ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=16000013صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام ، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من صلاة في مسجدي هذا بمائة صلاة ) ورواه
nindex.php?page=showalam&ids=13053ابن حبان في " صحيحه " وهذا صريح في
أن المسجد الحرام أفضل بقاع الأرض على الإطلاق ، ولذلك كان شد الرحال إليه فرضا ، ولغيره مما يستحب ولا يجب ، وفي " المسند "
nindex.php?page=showalam&ids=13948والترمذي nindex.php?page=showalam&ids=15397والنسائي عن
عبد الله بن عدي بن الحمراء ، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف على راحلته بالحزورة من مكة يقول : (
والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت ) قال
nindex.php?page=showalam&ids=13948الترمذي : هذا حديث حسن صحيح .
[ ص: 50 ] بل
ومن خصائصها كونها قبلة لأهل الأرض كلهم ، فليس على وجه الأرض قبلة غيرها .
ومن خواصها أيضا أنه
يحرم استقبالها واستدبارها عند قضاء الحاجة دون سائر بقاع الأرض .
وأصح المذاهب في هذه المسألة : أنه لا فرق في ذلك بين الفضاء والبنيان لبضعة عشر دليلا قد ذكرت في غير هذا الموضع ، وليس مع المفرق ما يقاومها البتة مع تناقضهم في مقدار الفضاء والبنيان ، وليس هذا موضع استيفاء الحجاج من الطرفين .
ومن خواصها أيضا
أن المسجد الحرام أول مسجد وضع في الأرض ، كما في " الصحيحين " عن
أبي ذر قال : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=16000015سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أول مسجد وضع في الأرض ؟ فقال : المسجد الحرام ، قلت : ثم أي ؟ قال المسجد الأقصى ، قلت : كم بينهما ؟ قال أربعون عاما ) وقد أشكل هذا الحديث على من لم يعرف المراد به فقال : معلوم أن
سليمان بن داود هو الذي بنى
المسجد الأقصى ، وبينه وبين
إبراهيم أكثر من ألف عام ، وهذا من جهل هذا القائل ، فإن
سليمان إنما كان له من
المسجد الأقصى تجديده لا تأسيسه ، والذي أسسه هو
يعقوب بن إسحاق صلى الله عليهما وآلهما وسلم بعد بناء
إبراهيم الكعبة بهذا المقدار .
[ ص: 51 ] ومما يدل على تفضيلها أن الله تعالى أخبر أنها أم القرى ، فالقرى كلها تبع لها وفرع عليها ، وهي أصل القرى ، فيجب ألا يكون لها في القرى عديل ، فهي كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن (الفاتحة) أنها أم القرآن ، ولهذا لم يكن لها في الكتب الإلهية عديل .
ومن خصائصها أنها لا يجوز دخولها لغير أصحاب الحوائج المتكررة إلا بإحرام ، وهذه خاصية لا يشاركها فيها شيء من البلاد ، وهذه المسألة تلقاها الناس عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رضي الله عنهما ، وقد روي عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس بإسناد لا يحتج به مرفوعا (
nindex.php?page=hadith&LINKID=16000016لا يدخل أحد مكة إلا بإحرام ، من أهلها ومن غير أهلها ) ذكره
nindex.php?page=showalam&ids=13357أبو أحمد بن عدي ، ولكن
nindex.php?page=showalam&ids=15689الحجاج بن أرطاة في الطريق ، وآخر قبله من الضعفاء .
وللفقهاء في المسألة ثلاثة أقوال : النفي ، والإثبات ، والفرق بين من هو داخل المواقيت ومن هو قبلها ، فمن قبلها لا يجاوزها إلا بإحرام ، ومن هو داخلها فحكمه حكم
أهل مكة ، وهو قول
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبي حنيفة ، والقولان الأولان
nindex.php?page=showalam&ids=13790للشافعي وأحمد .
ومن خواصه أنه يعاقب فيه على الهم بالسيئات وإن لم يفعلها ، قال تعالى : (
ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم ) [ الحج : 25 ] فتأمل
[ ص: 52 ] كيف عدى فعل الإرادة هاهنا بالباء ، ولا يقال : أردت بكذا إلا لما ضمن معنى فعل " هم " فإنه يقال : هممت بكذا ، فتوعد من هم بأن يظلم فيه بأن يذيقه العذاب الأليم .
ومن هذا تضاعف مقادير السيئات فيه لا كمياتها ، فإن السيئة جزاؤها سيئة ، لكن سيئة كبيرة جزاؤها مثلها ، وصغيرة جزاؤها مثلها ،
فالسيئة في حرم الله وبلده وعلى بساطه آكد وأعظم منها في طرف من أطراف الأرض ، ولهذا ليس من عصى الملك على بساط ملكه كمن عصاه في الموضع البعيد من داره وبساطه ، فهذا فصل النزاع في تضعيف السيئات ، والله أعلم .
وقد ظهر سر هذا التفضيل والاختصاص في
انجذاب الأفئدة وهوى القلوب وانعطافها ومحبتها لهذا البلد الأمين ، فجذبه للقلوب أعظم من جذب المغناطيس للحديد ، فهو الأولى بقول القائل :
محاسنه هيولى كل حسن ومغناطيس أفئدة الرجال
ولهذا أخبر سبحانه أنه مثابة للناس ، أي : يثوبون إليه على تعاقب الأعوام من جميع الأقطار ، ولا يقضون منه وطرا ، بل كلما ازدادوا له زيارة ازدادوا له اشتياقا .
لا يرجع الطرف عنها حين ينظرها حتى يعود إليها الطرف مشتاقا
فلله كم لها من قتيل وسليب وجريح ، وكم أنفق في حبها من الأموال والأرواح ، ورضي المحب بمفارقة فلذ الأكباد ، والأهل والأحباب والأوطان ، مقدما بين يديه أنواع المخاوف والمتالف والمعاطف والمشاق ، وهو يستلذ ذلك كله ويستطيبه ويراه -لو ظهر سلطان المحبة في قلبه- أطيب من نعم المتحلية وترفهم ولذاتهم .
وليس محبا من يعد شقاءه عذابا إذا ما كان يرضى حبيبه
وهذا كله سر إضافته إليه سبحانه وتعالى بقوله : (
وطهر بيتي ) [ الحج : 26 ] فاقتضت هذه الإضافة الخاصة من هذا الإجلال والتعظيم والمحبة ما
[ ص: 53 ] اقتضته ، كما اقتضت إضافته لعبده ورسوله إلى نفسه ما اقتضته من ذلك ، وكذلك إضافته عباده المؤمنين إليه كستهم من الجلال والمحبة والوقار ما كستهم ، فكل ما أضافه الرب تعالى إلى نفسه فله من المزية والاختصاص على غيره ما أوجب له الاصطفاء والاجتباء ، ثم يكسوه بهذه الإضافة تفضيلا آخر ، وتخصيصا وجلالة زائدا على ما كان له قبل الإضافة ، ولم يوفق لفهم هذا المعنى من سوى بين الأعيان والأفعال والأزمان والأماكن ، وزعم أنه لا مزية لشيء منها على شيء ، وإنما هو مجرد الترجيح بلا مرجح ، وهذا القول باطل بأكثر من أربعين وجها قد ذكرت في غير هذا الموضع ، ويكفي تصور هذا المذهب الباطل في فساده ، فإن مذهبنا يقتضي أن تكون ذوات الرسل كذوات أعدائهم في الحقيقة ، وإنما التفضيل بأمر لا يرجع إلى اختصاص الذوات بصفات ومزايا لا تكون لغيرها ، وكذلك نفس البقاع واحدة بالذات ليس لبقعة على بقعة مزية البتة ، وإنما هو لما يقع فيها من الأعمال الصالحة ، فلا مزية لبقعة البيت ، والمسجد الحرام ، ومنى ، وعرفة ، والمشاعر على أي بقعة سميتها من الأرض ، وإنما التفضيل باعتبار أمر خارج عن البقعة لا يعود إليها ولا إلى وصف قائم بها ، والله سبحانه وتعالى قد رد هذا القول الباطل بقوله تعالى : (
وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله ) ، قال الله تعالى : (
الله أعلم حيث يجعل رسالته ) [ الأنعام : 124 ] أي : ليس كل أحد أهلا ولا صالحا لتحمل رسالته ، بل لها محال مخصوصة لا تليق إلا بها ، ولا تصلح إلا لها ، والله أعلم بهذه المحال منكم . ولو كانت الذوات متساوية كما قال هؤلاء لم يكن في ذلك رد عليهم ، وكذلك قوله تعالى : (
وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين ) [ الأنعام : 53 ] أي : هو سبحانه أعلم بمن يشكره على نعمته ، فيختصه بفضله ويمن عليه ممن لا يشكره ، فليس كل محل يصلح لشكره ، واحتمال منته ، والتخصيص بكرامته .
فذوات ما اختاره واصطفاه من الأعيان والأماكن والأشخاص وغيرها
[ ص: 54 ] مشتملة على صفات وأمور قائمة بها ليست لغيرها ، ولأجلها اصطفاها الله ، وهو سبحانه الذي فضلها بتلك الصفات ، وخصها بالاختيار ، فهذا خلقه ، وهذا اختياره (
وربك يخلق ما يشاء ويختار ) [ القصص : 67 ] ، وما أبين بطلان رأي يقضي بأن مكان
البيت الحرام مساو لسائر الأمكنة ، وذات الحجر الأسود مساوية لسائر حجارة الأرض ، وذات رسول الله صلى الله عليه وسلم مساوية لذات غيره ، وإنما التفضيل في ذلك بأمور خارجة عن الذات والصفات القائمة بها ، وهذه الأقاويل وأمثالها من الجنايات التي جناها المتكلمون على الشريعة ونسبوها إليها وهي بريئة منها ، وليس معهم أكثر من اشتراك الذوات في أمر عام ، وذلك لا يوجب تساويها في الحقيقة ؛ لأن المختلفات قد تشترك في أمر عام مع اختلافها في صفاتها النفسية ، وما سوى الله تعالى بين ذات المسك وذات البول أبدا ، ولا بين ذات الماء وذات النار أبدا ، والتفاوت البين بين الأمكنة الشريفة وأضدادها والذوات الفاضلة وأضدادها أعظم من هذا التفاوت بكثير ، فبين ذات
موسى عليه السلام وذات
فرعون من التفاوت أعظم مما بين المسك والرجيع ، وكذلك التفاوت بين نفس
الكعبة وبين بيت السلطان أعظم من هذا التفاوت أيضا بكثير ، فكيف تجعل البقعتان سواء في الحقيقة والتفضيل باعتبار ما يقع هناك من العبادات والأذكار والدعوات ؟! .
ولم نقصد استيفاء الرد على هذا المذهب المردود المرذول ، وإنما قصدنا تصويره ، وإلى اللبيب العادل العاقل التحاكم ولا يعبأ الله وعباده بغيره شيئا ، والله سبحانه لا يخصص شيئا ، ولا يفضله ويرجحه إلا لمعنى يقتضي تخصيصه وتفضيله ، نعم هو معطي ذلك المرجح وواهبه ، فهو الذي خلقه ، ثم اختاره بعد خلقه ، (
وربك يخلق ما يشاء ويختار ) .